الكيلُ بمكياليْن في مونديال قطر
في الوسع اعتبار مونديال قطر 2022 مختبراً لتجريب الأطوار الجديدة التي بات يقيم فيها الإعلام الغربي في ضوء المتغيرات التي يشهدها العالم على أكثر من صعيد. ومن يطالع الصحف الغربية الكبرى، هذه الأيام، يقف على حملةٍ إعلاميةٍ غير بريئة تستهدف قطر. ومن ذلك المقالُ الذي نشرته الصحافية نتاليا خونْكيرو، الأحد الماضي، في صحيفة الباييس الإسبانية، وحمل عنوان ''قطر 2022: الحملة الأغلى في التاريخ لتلميع الصورة''. يطرح العنوان تناقضاتٍ مهنية تخلط، بشكل فجّ، بين السياسة والرياضة، فمن المفروض أن مهمة الصحافية، وهي بالمناسبة موفدة الباييس إلى الدوحة، تغطيةُ ما له علاقة بتنظيم كأس العالم، وليس تدوير الكلام إياه عن حقوق العمّال من دون الإتيان بجديد. وما يلفت الانتباه في المقال شعورٌ ما بالنقمة على بلد عربي نجح في استضافة كأس العالم، ونبرةُ شماتة غريبة، ذلك أن الكاتبة، وهي تصف مظاهر العمران في الدوحة، تبدو وكأنها تشمت بحالة الطقس الحار في المدينة، إذ تقول: ''في قطر، كما يقول جيرانُها، هناك فصلان فقط؛ الصيفُ الذي يستمر ثمانية أشهر، والجحيمُ حينما تصل الحرارةُ إلى 50 درجة''.
على الأرجح أن مقالات مشابهة صدرت في الصحافات الغربية هذه الأيام، ولعل الهاجس الأكبر لكُتّابها تغطية هذا الشعور بالنقمة بمزايدات أخلاقية وسياسية وحقوقية حول حقوق العمال والمهاجرين في قطر.
لماذا تلتزم هذه الصحافات الصمت بشأن آلاف العمال الأفارقة الذي يقضون في ظروف مزرية في مناجم استخراج الذهب والبلاتين والكوبالت واليورانيوم وغيرها من المعادن النفيسة التي تتسابق الشركات الغربية العملاقة لنهبها؟ لماذا تتجاهل استغلال الأطفال بتشغيلهم في ظروفٍ غير إنسانية في هذه المناجم؟ لماذا تُركّز على قطر في توقيتٍ لا يخلو من دلالة، حيث يحتدم الصراع على موارد الطاقة، وأساساً الغاز، مع غياب أفق لنهاية الحرب الروسية الأوكرانية؟ لماذا تكيل الدول الغربية بمكيالين في قضايا الحقوق والحريات؟ ما الفرق بين ضحايا يسقطون في فلسطين وآخرين في الاحتجاجات الإيرانية؟
بالطبع، لا يعني ما تقدمَ أن ظروف العمّال في قطر مثالية لا تشوبها شائبة، فتجاوز حقوق هؤلاء يبقى أمراً وارداً، لا سيما أمام ضغط الوقت والاعتبارات الأمنية والتنظيمية المرافقة لتنظيم المونديال. بيد أن ربط هذه التجاوزات حصرياً بالمونديال لا يمكن تفسيرُه إلا بمركزية ثقافية غربية تستكثر على دولةٍ عربيةٍ تنظيم فعالية رياضية كبرى بحجم كأس العالم لكرة القدم.
عقوداً طويلة عمل الغرب على منع تشكُّل مراكز قوى سياسية وحضارية مستقلة، يمكن أن تنازعه موارد القوة والنفوذ الرئيسة. ولذلك حرص على احتكار هذه الموارد (العلم، التكنولوجيا، التصنيع العسكري...). وعلى الرغم من أنه حسم الصراع، على الأقل في مواجهة دول الجنوب، إلا أن شعورَه بالتفوق بقي كامناً في اللاوعي الجماعي لمجتمعاته ونخبه السياسية والإعلامية، يُصرِّفه في لحظاتٍ غير متوقعة. هذا التصريفُ يبقى دائماً بحاجة لحزمة تمثلاتٍ سلبيةٍ مقترنةٍ بثقافات بعينها، فدول ومجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (ألا يسموننا هكذا في التقارير الدولية!) غير مؤهلة لاستضافة كأس العالم. وسقف حضورها في العالم أن تكونَ مادّةً لأخبار النزاعات والحروب والويلات التي تكاد لا تنتهي من منطقتنا العربية المنكوبة.
ولعل الشيء بالشيء يُذكرُ، فخلال مونديال 2014، الذي احتضنته البرازيل، لقي عدد من العمّال حتفهم في تشييد الملاعب وإعادة تأهيلها، وخرجت مظاهرات حاشدة في مدن برازيلية للاحتجاج على ارتفاع تكاليف التنظيم والمطالبة بتحسين الأوضاع الاجتماعية. ومع ذلك، مضت هذه الأخبار من دون ضجيج في الصحافات الغربية. مضت كذلك لأن البرازيل كبلد، فضلاً عن إرثها الكروي المعلوم، لا تقع ضمن جغرافية ثقافية شرقية ''متخلّفة''، ولذلك، التجاوزات التي حدثت يمكن أن تحدُث في أي بلد. وما دامت لم تحدُث في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فكان لا بأس من غضّ النظر عنها.