اللوز والثانوية العامة
من أمنياتٍ أتمنّى أن تتحقق قبل أن أفارق هذه الحياة، ولأن أضرارها ونتائجها قد رافقت سني حياتي، سواء على الصعيد الشخصي أو الصعيد العام، إلغاء نظام التوجيهي (الثانوية العامة)، وهذا النظام الذي يعد اختراعا وابتداعا مصريا خالصا، وجرى اعتماده في العام 1960، يعني حرفياً توجّهات الطالب، فيما كان يسري قبله نظام "المترك" الأردني المتّبع في فلسطين. وقد بدأت بعض المدارس، كالمدرسة القبطية في القدس، وابن الهيثم في نابلس، بتدريس منهاج "التوجيهي المصري" في خمسينيات القرن الماضي، للتخفيف على الطلبة الذين سعوا إلى الدراسة في مصر في ذلك الوقت، إذ كانوا يُلزَمون بدراسة سنة إضافية، وهي التوجيهي المصري، بعد "المترك". وللسبب نفسه، درّست دول عديدة "التوجيهية المصرية" في تلك الفترة. ولا تخفى المصالح السياسية التي أسهمت في تعزيز ذلك التوجه. وفي 1960، اتفقت الدول العربية على توحيد نظام التعليم، على أن يعتمد سنوات التعليم في المدرسة 12 عاما موزّعة على ثلاث مراحل دراسية.
هكذا نكتشف أن سنواتٍ كثيرة مرّت من المعاناة، يمكن أن يطلق عليها سنوات الجمود، أو سنوات تحديد مسار خاطئ لحياة الأبناء وليس التوجيه، وخصوصا أن نظام التوجيهي كان سابقا يعتمد على إعادة المادة التي يرسب فيها الطالب في العام المقبل، بمعنى أن تضيع سنة من عمره، وهو ينتظر لكي يتقدّم للامتحان مرة ثانية، ولكن في جميع المواد. وللأسف، هناك حالات كثيرة لطلبةٍ فشلوا نتيجة هذا النظام مرتين وثلاث مرات، وبعضهم لم يفلح في الحصول على التوجيهي منذ ذلك الوقت. واعتماد قرار إعادة مواد الرسوب في حال لم تتجاوز الأربع مواد مثلا، أو أقل، في العام نفسه لاحقا، خفف كثيرا من معاناة الطلبة، ولكن ذلك لم يمنع أن تستمرّ المعاناة، لأن تقرير مصير أي إنسان من خلال امتحان قصير يجرى تطبيقه خلال ساعتين ولمرة واحدة، وبحيث يشمل أسئلةً ربما تعتمد على الحظ لطالبٍ قد يركز على فصل أو جزء، بسبب غزارة المادة، خصوصا في التخصصات الأدبية التي تعتمد على الحفظ. وقد تحوّل التوجيهي، بجميع تخصصاته، إلى أسلوب الحفظ والتلقين بالتدريج، وبالتالي، فالنتائج المرجوة منه واهية أو محدودة، ولا تؤهل الطالب للدراسة الجامعية المثمرة المواكبة لمتطلبات العصر.
ورغم المناداة بضرورة إلغاء نظام التوجيهي، وايجاد بدائل له، إلا أن المياه الراكدة لم تتحرّك، وأصبح هاجس التوجيهي يطارد كل البيوت العربية عاما تلو العام. وللأسف، تسهم وسائل الإعلام في تضخيم هذا الهاجس، وتسهم الشركات والمؤسّسات التي تبحث عن الشهرة والربح في تضخيمه أيضا، ورصد الجوائز والمكافآت والهدايا للناجحين، سواء على حسابهم أو على حساب الأهل من خلال عروض التنزيلات المغرية، والتي تكون مصائد جديدة لأولياء الأمور، خصوصا حين تذهب "السكرة وتأتي الفكرة"، أي حين تذهب فرحة النجاح والتفوق، ويبدأ التفكير في تدبر مصاريف الدراسة الجامعية، واختيار التخصّص المناسب.
والعجيب والغريب أن ظاهرة مقلقة خرجت هذا العام، تشجيع طالبة فلسطينية رسبت في التوجيهي، لقبها "أم اللوز". وذلك بعد التقدّم لأحد المباحث بكل عفوية، أو تبجّح، أمام وسائل الإعلام، وهي توفر وسيلة للغش للسؤال الأول من المادة، وهو اختيار الإجابة من عدة إجابات صحيحة، ما حدا بوزارة التربية والتعليم الفلسطينية إلى حذف هذا السؤال من المادة، وكذلك إقرار حذفه في السنوات المقبلة من جميع المواد. ورسبت هذه الطالبة، لكنها استطاعت أن تصبح "تريند" على مستوى فلسطين، وحظيت بالهدايا والتشجيع واللقاءات الصحافية، ما يوجّه إنذارا خطرا ورسالة مهمة بأن التوجيهي قد أصبح بلا جدوى، وأن من يحتفلون برسوب الطالبة التي حرّكت مياها راكدة، بريشة طائر، هم أنفسهم فشلوا في التوجيهي، ولكنهم نجحوا في أن يصبحوا ذوي مالٍ يحتفون بأم اللوز.