المجتمع المدني التونسي وردود باهتة
يكاد الشهر يمضي على إعلان الرئيس التونسي، قيس سعيد، جملة الإجراءات الاستثنائية التي ليست بحسب بعضهم سوى انقلاب دستوري، يحافظ على خط رفيع مع الشرعية. بعد غد الأربعاء (25 أغسطس/ آب)، تنقضي الآجال، ويُنتظر أن يعلن الرئيس بين ساعة وأخرى عما يقرّره لاحقا، وقد غدا الحاكم بأمره بعد أن جمع السلطات الثلاث، التنفيذية والتشريعية والقضائية، وجمّد البرلمان، وتتالت إجراءات أخرى، كانت قد اختفت تماما خلال عقد الانتقال الديمقراطي، على غرار منع السفر الذي طاول مئات من المسؤولين السابقين، وإخضاع عشرات للإقامة الجبرية، لعل جديدهم عميد المحامين السابق ورئيس الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد العليا، المحامي شوقي الطبيب، علاوة على إغلاق مقرّات الهيئة.
لم تكن ردود الفعل في مستوى ما أقدم عليه الرئيس. جاءت باهتة، خصوصا في ظل صمت الاتحاد العام التونسي للشغل الذي كانت قواعده تتبجّح برفع الشعار المدوّي أيام الإضرابات التي لا تنتهي "الاتحاد أكبر قوة في البلاد". وهو صمت هناك من يرى أنه لن يطول، في ظل تلميحات الرئيس التي أعادها أكثر من مرة، داعيا من ينتظر خريطة الطريق إلى الذهاب إلى كتب الجغرافيا، حيث سيجد فيها البحار والمحيطات، رافضا، في الوقت ذاته، الرجوع إلى الوراء، أو حتى مجرّد الذهاب إلى الحوار. والأرجح أن تصريحاته تلك يقصد بها قيادة الاتحاد التي بدأت تعبّر، أخيرا، بكثير من اللطف والحذر، عن رغبتها في معرفة خريطة الطريق التي يتبنّاها الرئيس، خصوصا وأن الهيئة الإدارية اجتمعت من أجل إعداد خريطة طريق قد يستأنس بها الرئيس، ما كان ربما سببا في هذا الجفاء المتبادل بين الرئيس واتحاد الشغل.
يمر شهر على إجراءات سعيّد، ولم تفلح النخب، سواء المدنية أو السياسة، في توحيد مواقفها والتعبير عن رفضها ما وقع
باستثناء تلك الكتلة الهلامية، الشعب الذي يدّعي الرئيس أنه يعبر عن إرادته التي تجلت تباعا، وبشكل تصاعدي في ممارساتٍ لم يعتد عليها التونسيون منذ مدة، كانت ردود الفعل محرجة، لنخبٍ كانت تزعم إنها المؤتمنة على الانتقال الديمقراطي، وإنها ستحرسه من كل زيف أو زيغ. على خلاف ذلك رأينا حشودا تحثّ الرئيس، كلما التقت به في الشوارع والأسواق، على مزيدٍ من "الضرب" والذهاب إلى الأمام في ممارساتٍ لا تخلو من هستيرية، وقد توالدت بنسق سريع أجسام غريبة سواء في الفضاء المادي أو الافتراضي: الحشد الشعبي، المجلس الأعلى للشباب، التنسيقيات .. إلخ.
يمر شهر، ولم تفلح هذه النخب، سواء المدنية أو السياسة، في توحيد مواقفها والتعبير عن رفضها ما وقع. ظلت بعض الشخصيات الوطنية والاعتبارية تدلي بتصريحات مبدئية، لكنها، مع أهمية ذلك، بدت حقيقة تغريدا خارج السرب، لم تستطع أن تُحدت اختراقا مهما في هذا "الإجماع الشعبي" الذي يزيّنه الإعلام وصفة بروباغندا لشعبويةٍ تستعد لأن تكون كاسحة وتسلّطية.
في أحيانٍ كثيرة، يخيل إلينا، نحن جيل المخضرمين في تونس، أن بعض الممارسات تذكّرنا تماما ببن علي، مفردات من قبيل "إذن سيادة الرئيس"، وهذه عبارة خلنا أننا تركناها شاهدة في متحف التاريخ على خطابٍ ولّى ولن يعود. الزيارات المفاجئة، .. إلخ. ويخشى بعضهم أن تعود عبارات "مشاريع رئاسية" .. إلخ.
ارتهن المجتمع المدني في أثناء الأزمات للدولة، وغدا تابعا لرمز السلطة نكاية في خصومه السياسيين
يجري ذلك كله في ما يشبه الصمت. وهذا علامة على إخفاق المجتمع المدني الذي طالما تباهى به التونسيون واعتبروه حصنا يقي البلد من أي انحرافٍ أو نكوصٍ ديمقراطي. وليست هذه الحقيقة المحبطة سوى نتيجة جملة من العوامل، لعل أهمها: انقسام المجتمع المدني بعيد سقوط بن علي، فخلال هذه العشرية أصبح لنا مجتمعان مدنيان قلما التقيا، ففي خلال المنعطفات الكبرى، تم إلحاق هذين المجتمعين بالمجتمع السياسي الذي كان منقسما. حالة الاستقطابات الحادّة التي عاشتها البلاد وغذّتها جملة الأحداث الكبرى: الاغتيالات، كتابة الدستور، الانتخابات. عادت هذه الاستقطابات لتشجّ المجتمع المدني إلى مخيمين كبيرين: مخيم يبارك تلك الإجراءات، ولا يطلب سوى ضمانات، متوسما في الرئيس الخير. ومجتمع مدني آخر قد يكون أقل حظوة في وسائل الإعلام، يرى فيما حدث انقلابا.
حالَ ارتهان المجتمع المدني، في بيروقراطيته الإدارية والمالية، للدولة، بشكلٍ أو بآخر، في مواقع كثيرة، دون استقلاليته، فارتهن في أثناء الأزمات للدولة، وغدا تابعا لرمز السلطة نكاية في خصومه السياسيين. ما يعيشه المجتمع المدني حاليا يعدّ حالة استثنائية، وهو الذي وقف شوكةً في حلق كل من تولى حكم تونس في العقد الأخير، حركة النهضة، حزب نداء تونس .. إلخ. بل لقد أسهم في إدارة كل الصراعات مع من حكموا وجرّهم إلى تقديم تنازلاتٍ مذلّة، بل وأجبرهم على الرحيل، تماما كما حدث مع حكومة الترويكا سنة 2013. على خلاف ذلك، يبدو المجتمع المدني هذه المرّة إما مساندا لـ"الإجراءات الاستثنائية" نكايةً في خصم سياسي، وهو "النهضة"، أو متحفظا طالبا بكل "مودّة "بعض الضمانات، وهو يصغي السمع لصراخ الجماهير المتخيلة "الشعب يريد ..".