المدرسة التونسية آلة عنف
يفيق التونسيون، منذ أسبوعين، كل يوم تقريباً، على وقع أحداث عنف مشينة تُمارَس في فضاء المدرسة، ضحاياها مربون أو تلاميذ. ربما ما زالت صور المربي وهو يصارع الموت والدماء تنزف من كامل جسده، في فصل من مدارس الضاحية الجنوبية للعاصمة، عالقة في أذهان التونسيين يستحضرونها بكلّ لوعة وحسرة ومخاوف كثيرة على مؤسسة علّقوا عليها كثيراً من آمالهم.
كانت تونس المعاصرة هبة المدرسة. علمت المدرسة فئات عريضة ونزعتهم من براثن الأمية. كانت لعديدين من أبناء الطبقات الشعبية قاطرة رفعتهم إلى العلا، مكانة ومنزلة. منحت هوية وطنية جامعة تجاوزت بها انتماءاتهم القبلية والجهوية حتى زالت أو تكاد. راهنت النخب الوطنية على المدرسة في أثناء استقلال البلد سنة 1956، حتى صاغت ما يشبه "عقيدة المدرسة" مع الإيمان بدورها السحري، وأحاطتها بهالة من الوقار والقداسة. لم يكن الأمر مجرّد صور وتمثلات وأيديولوجيا تبالغ في إعلاء مكانة المدرسة، واليقين أنها مفتاح يحل معضلات "التخلف والجهل" ويلحق البلاد "بركب الأمم"، كما كان الزعيم بورقيبة يكرّر، بل كانت المسألة مجسّدة في ميزانيات وبرامج. حظي التعليم بربع ميزانية البلاد مستحوذة بذلك على قسط الأسد منها: كانت المدرسة تعلم وتربي وتطعم الناس حتى لا يجوعوا، وتلقحهم من أمراض فتاكة. وكانت أيضا تؤوي عروض السينما المتجولة خلال السبعينيات، وتضم في فضائها نوادي المسرح والسينما والموسيقى، حتى تخرج منها أغلب النخب الثقافية في تلك العقود.
المدرسة في تونس ماكينة عنف: بنية رثّة، مناهج قديمة، زمن مدرسي كارثي، أساليب التعامل مع المراهقين كارثية
لماذا ينهار ذلك كله بين عشية وضحاها؟ إنما حصل التفكك تدريجياً، وتسرّب بشكل ناعم، حتى لا يستفزّنا مرّة واحدة... حصل ما حصل بعد عقود، وتحولت المدرسة إلى فضاء منفر يحتضن جبال العنف هذا، غير أنه حتى نفهم هذا، علينا أن نتحلى - نحن التونسيين- بكثير من الرصانة والتواضع. لن نخترع العجلة. لقد شكّل سؤال العنف المدرسي مبحثاً متعدّد الاختصاصات، راكم دولياً آلاف المؤلفات والتقارير. وكانت أحداث الاعتداء التي هزت الرأي العام لفظاعتها تطوراً لافتاً في مشهد العنف، غير أنّ المدرسة التونسية تسجل سنوياً عشرات آلاف أحداث العنف: عنف بين التلاميذ أنفسهم، عنف يسلّطه المربون على التلاميذ، أو أي عنف يمارسه التلاميذ على المربّين أو عنف يسلط على المدرسة. ومع ذلك، ما زالت الوزارة تتكتم على الإحصائيات، فضلا عن عدم دقتها، لكن سنة 2018 سجلت، حسب خبراء، ما يناهز 16000 حالة عنف، ما يقارب 60 حالة عنف يوميا (بحساب السنة المدرسية وحسب إحصائيات أوردتها مصادر عديدة). ومع ذلك، تعود آخر دراسة نشرتها اليونسكو إلى سنة 2012، وتشير إلى ما يناهز 140 ألف ملف تجاوزات تربوية مختلفة، تعلّق الجزء الأكبر منها بملفات عنف. ويمكن تصنيف الفرضيات التي تقدّم لفهم العنف المدرسي إلى فرضيتين:
الأولى، أنّ المدرسة منتجة للعنف، بين جدرانها و أسوارها تنتج عنفاً: الاكتظاظ، الزمن المدرسي، البنية التحتية، المناهج وتكوين المربّين، الأنشطة الموازية للتدريس، كلها آلات إنتاج عنف إذا ما اختلت. المدرسة في تونس إذا ما قاربناها من هذه الزاوية عنيفة، بل ماكينة عنف: بنية رثّة، مناهج قديمة، زمن مدرسي كارثي، كفايات المدرسين في مجال بيداغوجيا الأطفال وأساليب التعامل مع المراهقين كارثية، لغياب التكوين فيها، إلّا حالات الاستثناء النادرة النقص الحاد في الموارد البشرية: قيمين، مربّين، إلخ. لم تعد المدرسة التونسية تلك التي نتباهى بها و"نصدّر" خرّيجيها إلى بلدانٍ شقيقةٍ عديدة، كما تقهقر ترتيبنا في جميع المنافسات والتصنيفات الدولية التي تقيم مكتسبات التلاميذ ومهاراتهم.
غرور المدرسة وصلفها لم يعودا مبرّرين بالنسبة إلى جيل جديد له لغة وإدراكات وتصورات مغايرة لجيلنا بشكل تام
الفرضية الثانية التي تقدّم لفهم العنف المدرسي أنّ المدرسة تتلقى العنف الذي يتسلل إليها، أو يفيض عليها من الخارج: العنف الأسري، شبكات الأقران، عنف الشارع، وسائل الإعلام وشبكات التواصل. وهذا أيضاً ينطبق على المدرسة التونسية التي يحاصرها العنف، ويخلع أبوابها المهترئة أصلاً. يتابع الأطفال التونسيون يومياً شارعاً سياسياً عنيفاً ينكل فيها الفرقاء ببعضهم بعضاً، كما ينتهي إلى مسامعهم معجم لا يرى في الفرقاء والمواطنين سوى أعداء وخونة وجراثيم وجبت إبادتهم، علاوة على إعمال الحرق والتخريب والسطو التي لم يسلم منها مرفق أو قطاع.
على التونسيين أن يتخلّوا عن مشاعر الحنين إلى مدرسةٍ كانت قادرة أن تساوم من يؤمها، حتى يتعلموا عليهم أن يتنازلوا عن حريتهم وكرامتهم... ثمّة قواعد جديدة في معادلة صعبة على التونسيين أن يتمرّنوا عليها طويلا، حتى يوطّنوا عليها أنفسهم من هنا فصاعداً. على المدرسة أن تؤدّي واجبها تجاه تلاميذها وهي تتواضع إليهم. لم تعد الوحيدة التي تحتكر المعرفة، ولم تعد قادرةً على ضمان العمل لهم لاحقاً، وهي مدعوّة، على الرغم من ذلك كله، إلى أن تستمع إليهم بوصفهم ذواتاً هشّة، تحتاج الكرامة وكثيراً من الاعتراف والإنصات ومشاعر العطف والمرافقة، حتى وإن أساءوا أو أخطأوا. غرور المدرسة وصلفها لم يعودا مبرّرين بالنسبة إلى جيل جديد له لغة وإدراكات وتصورات مغايرة لجيلنا بشكل تام.