المغرب .. حين تصبح السياسة مغنماً
كان صادما ما شهدته انتخابات عدد من مجالس الجماعات والمقاطعات والعمالات والأقاليم والجهات، في المغرب، من توتّر وعنف وبلطجةٍ وتبادل الاتهامات بالتهديد بالقتل والإرشاء والابتزاز والخيانة، جديدها مشاهد الفوضى التي رافقت انتخاب رئيس مقاطعة طنجة - المدينة يوم الأحد المنصرم. وبقدر ما يبعث ذلك على الأسى والغضب، يُعيد، أيضا، طرحَ الأعطاب المزمنة في المشهد السياسي، والتي بات الانحطاطُ الأخلاقي والسياسي الذي يقيم فيه قطاع عريض من النخب المغربية من سماتها البارزة.
كان للتكنولوجيا دور حاسم في توثيق الفضائح التي شهدتها هذه الانتخابات وتداولِها، على نطاق واسع، في منصّات التواصل الاجتماعي، من خلال فيديوهات توثّق، بالصورة والصوت، ما شابها من تجاوزاتٍ معظمها يستوجب المساءلة القانونية. ويُعزز ذلك موقفَ المقاطعة الذي تتبنّاه فئاتٌ واسعة داخل المجتمع المغربي، ترى في الانتخابات الجماعية والجهوية والتشريعية مجرّد فرصةٍ موسميةٍ يتحيّنُها أباطرة الانتخابات والأعيان والرأسمال المشبوه وانتهازيـو الطبقة الوسطى، للفوز بمقاعد في هذا المجلس أو ذاك، تمهيدا لحيازة رئاسته، والتحكّم، لاحقا، في آلية صناعة القرار المحلي والجهوي، بما يُدرُّه عليهم ذلك من مغانمَ مختلفة. ماذا يتوقع المواطن، إذاً، من أشخاصٍ فاسدين يتاجرون في الذمم والأصوات والمواقف والتحالفات؟ مؤكّدٌ أنهم سيخيّبون آماله، لأنهم، ببساطة، ترشّحوا طمعا فيما يمنحه المقعد والمنصب من فرص للإثراء والترقّي الاجتماعي السريع.
تحويل الشأن العام، المحلي والجهوي، إلى مختبر للفساد والريع والإثراء غير المشروع في ظرفيةٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ محكومةٍ بتبعات الجائحة، لا يستدعي فقط سؤال النخب المحلية وعلاقته بالتدبير (التسيير) العمومي للجماعات والعمالات والأقاليم والجهات، بل يشكل، كذلك، حجر عثرة أمام تنزيل مخرجات النموذج التنموي الجديد، ذلك أن غياب نخبٍ مؤهلةٍ أخلاقيا وسياسيا سيحوِّل هذه المخرجات إلى نقمة، عوض أن تكون نعمةً، بالنسبة للدولة والمجتمع. بل أكثر من ذلك، قد تصبح المجالس عبئا سياسيا على الحكومة المقبلة، إذا ما افتقدت النجاعةَ في أدائها، خصوصا في ما يرتبط بالبعد المجالي الذي يُعتبر أحد أسباب الانتكاسة التنموية التي يعرفها المغرب منذ عقود. يطرح ما شهدته انتخابات عدة مجالس علامة استفهام كبرى بشأن قدرة هذه الحكومة على إحداث فرق في المشهد السياسي، في ضوء حزمة الوعود التي قدّمتها الأحزاب الثلاثة التي ستُشكلها، وهي وعودٌ تشكّل، نظريا، ورشة إصلاحية مفتوحة، قادرة على إحداث نقلةٍ تنموية نوعية، فافتقادُها العمقين، المحلي والجهوي، مُمثَّلا في مجالس تحوز الحد الأدنى من ثقة المواطن، سيعقّد من مهمتها، سيما أنها ستكون مطالبة، في الوقت ذاته، بالحفاظ على التوازنات المالية وترشيد الإنفاق العمومي.
لقد أفضى الاندحار الانتخابي والسياسي لحزب العدالة والتنمية، محليا وجهويا ووطنيا، إلى حدوث فراغ، لعل من أوجهه غياب التوازن داخل مكاتب المجالس، وهو ما تسبّب في احترابات سياسية وشخصية وقبلية غير مسبوقة. ولعل ما زاد الطين بلّة أن بعض الأحزاب لم تعد تتحكّم تنظيميا في القرار الحزبي، المحلي والجهوي، ما ساعد في حدوث انفلاتاتٍ مسّت صورةَ بلدٍ يسعى إلى تلميع تجربته الديمقراطية (الهشّة أصلا) على الصعيدين، الإقليمي والدولي.
إن عودة متهمين بالفساد والتزوير واختلاس المال العام إلى تحمّل مسؤولية إدارة المجالس تسائل مصداقية كل ما يسوَّق بشأن الجهود المبذولـة لأجل الإقلاع التنموي والاجتماعي المنشود، وهي جهودٌ يفترضُ أن تقودها، على صعيد الجهات، نخبٌ محليةٌ نظيفةٌ ومؤهلةٌ لمقارعة هذا التحدّي. وقد سبق للعاهل المغربي، محمد السادس، أن انتقد، أكثر من مرّة، قصور النخب السياسية، إلى درجة أنه لوّح في خطابٍ له (2017) بزلزال سياسي، في إشارةٍ صريحةٍ منه إلى الحاجة لتغيير جذري في آليات اشتغال هذه النخب والمؤسسات ذات الصلة بحركة التنمية.