المغرب وتموضُعه الجديد في أفريقيا
كان السلطان محمد الشيخ المهدي يتوق إلى المشرق، بعد تغلبه على بلاد المغرب، مُردّدا عبارته: "لا بد لي أن أذهب إلى مصر، وأخرج منها الأتراك من أجحارهم، وأنازلهم في ديارهم". زَهْوُ السلطان السعدي بانتصاراته الساحقة كان سببا في مقتله ضربًا بشاقور، على أيدي مبعوثي السلطان سليمان العثماني، حسب رواية المؤرخ الإفراني في "نزهة الحاذي بأخبار ملوك القرن الحادي". بهذا الحدث الجلل الذي حُمل على أثره رأس المهدي إلى عاصمة الخلافة العثمانية، ستنغلق في وجه السلاطين المغاربة جبهة الشرق، بعد أن انغلقت جبهة الشمال غير بعيد (أي الأندلس على عهد دولة بني مرين).
غير أنه، وبعد مدة غير طويلة الأمد، سيتولى أحد أبناء السلطان محمد الشيخ، هذه المرّة، افتتاح جبهة الجنوب: بلاد السودان كما كانت تُسمى في الأدبيات التاريخية المغربية. وبالعودة إلى الإفراني مُجدَّدا، سنجده يُترجم تطلُّع السلطان أحمد المنصور إلى الجنوب: "ولمّا استولى المنصور على بلاد توات وتيكرارين وأعمالهما، تاقت همّته لبلاد السودان". وفيما خاب سعْي محمد الشيخ إلى فتح مصر، سيحالف أحمد المنصور الفوز ببلاد السودان، حتى لُقِّب بـ "الذهبي"، جرّاء ما استخلصه من ذهب من تلك البلاد. وإن اتّجه المرابطون إلى السودان فاتحين قبلهم، بزعامة الأمير أبي بكر بن عمر اللمتوني، إلا أن انشغالهم بالأندلس كان أهم من الناحية الاستراتيجية، لاعتباراتٍ يضيق المجال للتفصيل فيها. لذلك، بات أكبر إنجازات السعديين، بعد دحر التحالف الإسباني- البرتغالي عن المغرب، في معركة وادي المخازن، هو فتح بلاد السودان.
تبدو علاقة المغاربة بأفريقيا (جنوب الصحراء)، ومنذ أمد بعيد، في غير حاجةٍ إلى تأكيد. ذلك أن من نتائج تلك العلاقة انتشار الإسلام، على المذهب المالكي، في الأصقاع الأفريقية، زيادة على توزع الزوايا الصوفية المغربية، من الصحراء وجنوبها حتى غرب أفريقيا، على المحيط الأطلسي. تراجع الاهتمام بالجنوب، خلال حقبة ساهم فيها انشغال السلاطين العلويين بتحرير المدن الساحلية المغربية، من قبضتي الإسبان والبرتغاليين. ومع ذلك، ظلت العلاقة المغربية - الأفريقية حاضرة، خصوصا في ما كان يتعلق بسكان الصحراء الكبرى، ومن والاهم في الجنوب. في هذا الإطار، يمكن قراءة رد المغرب أخيرا، في إثر محاولة جبهة بوليساريو إغلاق معبر الكركرات، المنفذ المغربي إلى موريتانيا، ما كان بمثابة إغلاق لـ"قوس" العلاقة التاريخية المتينة بأفريقيا (جنوب الصحراء تحديدا).
كان في صُلب استراتيجية التموضع المغربي في إفريقيا الدفاع عن الوحدة الترابية للبلاد، عبر حشد الدول الصديقة لمواجهة الخصوم
كان لتطلُّع الملك الراحل، الحسن الثاني، المُبالغ فيه إلى أوروبا، علاوة على الانسحاب المُتعجِّل من منظمة الوحدة الأفريقية، آثار سلبية بالغة على تطور العلاقة المغربية - الأفريقية، فلجوء المغرب إلى سياسة "المقعد الفارغ"، سنوات طويلة من عهد الحسن الثاني، كان من نتائجه تلقي تلك القرارات المناوئة التي كانت تحاكُ داخل ردهات المنظمة الأفريقية. بطبيعة الحال، الحديث مُوجّه، هنا، إلى ما ظلّ يصدره التحالف الثلاثي ضد المغرب، في موضوع بسط السيادة المغربية على أقاليمه الجنوبية (الجزائر وجنوب أفريقيا ونيجيريا). ويمكن التطرق إلى مرحلتين، في التاريخ المغربي المعاصر، من العلاقة المغربية - الأفريقية. ولأن في صُلب هذه العلاقة موضوع استكمال الوحدة الترابية، بات من الأجدر الحديث عن مُقاربتين:
مُقاربة الملك الحسن الثاني، والتي تجسّدت في اعتماد سياسة "الكرسي الفارغ"، بعد الانسحاب من منظمة الوحدة الأفريقية، خلال قمة نيروبي المنعقدة سنة 1984. وقد تعرّض المغرب إلى مجموعة من القرارات المناوئة، في إثر ذلك الانسحاب، لولا تدخُّل بعض الدول الأفريقية الصديقة في التخفيف من وطأة بعض تلك القرارات. وبهذا الصدد، يمكن الإشارة إلى أن علاقة المغرب بدول أفريقيا كانت مبنية، أساسا، على صداقاتٍ شخصية، بين الملك الثاني وبعض رؤساء الدول الأفريقية.
مُقاربة الملك محمد السادس، التي تمثلت في المسارعة إلى استعادة "المقعد" داخل المنظمة التي صارت تسمى "الاتحاد الأفريقي"، بعد معاناة المغرب من قرارات الثلاثي المُناوئ. وفي مسعاه الحثيث، نحو مأسسة العلاقة المغربية - الأفريقية، سيعتمد محمد السادس دعائم جديدة، تقوم على ثلاثة أبعاد:
بُعد اقتصادي، عبر تطوير العلاقات الاقتصادية والتجارية جنوب - جنوب، بالتركيز على استثمار ما تتوفر عليه أفريقيا من مقومات ذاتية. وفي إشارة إلى حجم العلاقات التجارية النامية، يمكن تسجيل تضاعف مبيعات البضائع المغربية الموجهة إلى أفريقيا ثلاث مرات، خلال العقد الأخير، لتبلغ ما يقارب 22 مليار درهم في سنة 2019. كما يمكن الإشارة إلى ازدياد نشاط البنوك المغربية، في وجود ثلاثة بنوك مغربية كبرى في بعض الدول، ومساهمتها في تطوير القطاع المالي الأفريقي. علاوة على ذلك، يُلاحظ الاهتمام الملموس بتطوير شبكات النقل والخدمات اللوجيستيكية، إلخ.
كان لتطلُّع الحسن الثاني، المُبالغ فيه إلى أوروبا، وللانسحاب المُتعجِّل من منظمة الوحدة الأفريقية، آثار سلبية بالغة على تطور العلاقة المغربية - الأفريقية
بُعد اجتماعي - إنساني، عبر تحويل العلاقات المغربية - الأفريقية، من مستوى القمة إلى القاعدة. وقد تمّ استثمار البعد الاقتصادي، بهذا الخصوص، ليستفيد من نتائجه المثمرة المواطن الأفريقي: الاستفادة من الخبرة المغربية في تكوين الأطر، بناء قرى الصيد النموذجية، الاستثمار في ما يسمى السكن الاقتصادي، تجهيز المستشفيات المتنقلة، وغير ذلك. ومثلما ذكرنا، كان من أهداف المقاربة الجديدة، تحديدا، التوجّه إلى خدمة المواطن الأفريقي، بدل التركيز على العلاقات الرأسية مع الحكام والزعماء.
بُعد ثقافي، عبر تمتين العلاقة التاريخية المغربية - الأفريقية، باستحضار روابطها الروحية: تسهيل وفود الحجاج الأفارقة إلى مراكز الزوايا الصوفية المغربية (زاوية سيدي أحمد التيجاني في فاس مثلا). وتأتي في السياق ذاته مبادرة المغرب إلى تكوين الأئمة، القادمين من مجموعة من الدول الأفريقية، منها تلك المناوئة لوحدته الترابية، مثل نيجيريا، على مبادئ الإسلام الوسطي، في محاولةٍ إلى محاربة التطرّف والإرهاب. كما تجدر الإشارة إلى انفتاح المغرب ثقافيا على أفريقيا، من خلال احتضان دول أفريقية، باعتبارها "ضيوف شرف"، في بعض دورات المعرض الدولي للكتاب.
بشكل عام، كانت هذه أبعاد الاستراتيجية المغربية، للتموضع الجديد في دول أفريقيا. وإن كان في صُلب هذه الاستراتيجية الدفاع عن الوحدة الترابية للبلاد، عبر حشد الدول الصديقة لمواجهة الثلاثي المناوئ، إلا أن من نتائجها المثمرة كان: فك طوق العزلة التي فرضها انسحاب المغرب من منظمة الوحدة الأفريقية من جهة أولى، وتنمية الاقتصاد المغربي من جهة ثانية، وخدمة التعاون الأفريقي (جنوب - جنوب) من جهة ثالثة. والملاحظ أن المغرب لم يستثن، في ما يتعلق بمستوى التعاون، حتى خصوم وحدته الترابية (مثل نيجيريا، رواندا، كينيا، إثيوبيا، زامبيا جنوب السودان، وغيرها من الدول).
وإلى اليوم، استطاع المغرب التخفيف من مناوأة بعض خصومه، مثل نيجيريا التي دخل معها في مشروع اقتصادي كبير: خط نقل الغاز إلى أوروبا. وفي حال ما تحقق هذا الإنجاز الضخم، الذي ما زالت تعترضه صعوباتٌ ماليةٌ ولوجستيةٌ وسياسية، إلى حد الآن، ستكون السياسة الأفريقية للمغرب قد حققت أكبر مشاريعها على الإطلاق. ولذلك، لا غرابة من أن تسارع الجزائر إلى تجديد مشروعها القديم مع نيجيريا، في محاولةٍ إلى ثني الأخيرة عن التعاون مع المغرب، في ما يخص إنشاء أنبوب الغاز المذكور.
الاعتراف الأميركي بمغربية الصحراء، وفي وجود تململ أوروبي بهذا الاتجاه، يمكن أن يمنحا المغرب فرصة لتدبير ملف الصحراء بثقة وهدوء
بعد تقدّم المغرب بطلب استعادة مقعده بالمنتظم الأفريقي، في القمة الثامنة والعشرين بأديس أبابا، كان قد وافق على ميثاق الاتحاد الأفريقي، وأكثر من ذلك الجلوس جنبا إلى جنب "بوليساريو". ولعل هذه البراغماتية التي تعاطى بها المغرب، آنئذ، لاستعادة أدواره الأفريقية، هي التي باتت تخوّله التأثير في قرارات "الاتحاد" لصالحه اليوم. هل تقترب اللحظة المأمولة، لتجد "بوليساريو" نفسها خارج الاتحاد الأفريقي؟ يمكن قراءة نجاح التموضع المغربي الجديد، في ظل الاعتراف الأميركي بمغربية الصحراء، من خلال التحرّكات الجزائرية المحمومة، في اتجاه الحلف المناوئ القديم (جنوب أفريقيا، نيجيريا، أوغندا، .. إلخ)، وفي اتجاه الحليف الروسي. وما دعوة أعضاء في البرلمان الجزائري الرئيس بايدن إلى مراجعة الاعتراف الأميركي بمغربية الصحراء إلا تأكيد الإقلاع الديبلوماسي المغربي من جهة، وأفول الهيمنة الديبلوماسية للثلاثي المناوئ من جهة ثانية.
بالنسبة لإخراج "بوليساريو" من الاتحاد الأفريقي، ضمن خطة الاستهداف المغربية المتوقعة، هناك من يرى أن لا فائدة معتبرة ترجى من ذلك. فبدل الذهاب إلى حد الاصطدام الأفريقي - الأفريقي الذي يمكن أن ينشأ عنه تعطيل "الاتحاد"، يمكن أن يشكّل الأخير منصّة مستقبلية، لإطلاق حوار عقلاني متعدّد، إن لم ينه الصراع تحت مقترح الحكم الذاتي، فعلى الأقل يجنب اندلاع مواجهات مسلحة في الأقاليم الجنوبية. ويبدو تجنب إنهاك الاتحاد الأفريقي بالخلافات العربية - العربية، في ظل ما تشهده دول أفريقيا من تسارع وتائر الديمقراطية والتنمية، القرار الأنسب في المرحلة الراهنة. من دون شك، فإن الاعتراف الأميركي بمغربية الصحراء، وفي وجود تململ أوروبي بهذا الاتجاه، يمكن أن يمنحا المغرب فرصة لتدبير ملف الصحراء بثقة وهدوء وحكمة.