النقاهة في الأدب
لا تتباين القواميسُ والمعاجمُ العربية، القديمة منها والحديثة، في تفسير معنى النقاهة، إذ تُرجعها إلى جذرها الثلاثي: "نقِه المريضُ، أي برئ ولا يزال به ضَعف". وهي حال قواميس أخرى، منها القاموس الفرنسي الذي لا يبتعد عن الشرح العربي. ومع ذلك، فإن حالة النقاهة لم ترِد ولم تولَ عنايةً خلال ما يعدو ثلاثة آلاف عام، على ما يبيّنه الباحثُ الفرنسي، دانييل ميناجيه، في كتابه الصادر العام الفائت عن دار "لي بيل ليتر" تحت عنوان "نقاهات، الأدب مستريحاً"، حيث يشير إلى صمت النصوص المقدّسة والوثنية التامّ عن تلك الحال التي تتوسّط حالين، هما المرض والعافية. ويردّ ذلك إلى نبذ التوراة الحالات الوسيطة أو المتحوّلة، لكونها رديف الضّعف والتراخي. في العهد الجديد أيضاً، الناس إمّا مرضى وإما أصحّاء، ومعجزات الشفاء فورية، ولا تتطلّب وقتاً أو تعرف إطالة. أما في موضوعة الأدب، وبالذات ذاك الذي تناول الفروسية ثيمةً رئيسية، فالقتال والمبارزات عديدة، والفرسان يصابون بجروح ويسقطون أرضاً، إلا أننا لا نرافق عذاباتهم وهم يسلكون درب الشفاء. إنهم يختفون من أمام أعيننا حتى عودتهم معافين، ممتطين صهوات جيادهم ومستعدّين للقتال من جديد. وقد تكون قلّة الاهتمام بفضاءات النقاهة عائدةً إلى لبس الأخيرة، وعدم وضوح حدوده، أو غموض المسافة التي تفصلها عن المعاناة أو الشفاء، مع الإشارة إلى أن نهاية النقاهة لا تعني البتة العودة إلى ما كان المريضُ عليه قبل إصابته بالمرض. "بحسب الطبيب والفيلسوف جورج كانغيلهم، إن عودة المريض بعد شفائه إلى ما كان عليه "من قبل"، هو وهم. وكل عودة إلى السويّة السابقة غير ممكنة".
هذا ويؤكّد ميناجيه أن فكرة النقاهة، بما هي محنة جسدية ونفسية، وفترة عودة إلى الذات للغوص في عمق الوجود الإنساني، وحتى باعثة على الحبّ، لم تحضر وتنتشر قبل القرن التاسع عشر، مع كبار الكتّاب، من أمثال بلزاك وغوته وجاين أوستن ومدام دو ستايل وهنري جيمس وريلكه وبروست وتوماس مان وفيرجينيا وولف، وكثر سواهم، حيث نقع حتى على تمجيد العضو المعتلّ، لكونه الدافع إلى خوض تجربةٍ روحيةٍ استثنائية. لذا، كانت فكرة النقاهة تتلقى مباركة المجتمع والمؤسسة الدينية على السواء، خصوصاً عندما تُفضي إلى مراجعة الذات مصحوبة بتحوّلات كبرى، كما رأى إليها كتّاب الأدب الروسي آنذاك، (ليون تولستوي على وجه الخصوص). إنها فترة مباركة تجعل الوقت طافياً، معلّقاً، وتشحذ الحواسَّ لتستجيب لأدنى الخلجات من حولها. "تبدو النقاهة شاحبةً وتافهةً، إذا ما قارنّاها بالحمّى وهذيانها. في المقابل، إنها تكرّس غلبةَ الإحساس، وهو ما يعطيها الأفضلية على المرض، كما على الصحة الكاملة المكتملة. عندما نكون مرضى، قلّما نحسّ بالأشياء، وحين نستعيد عافيتنا، يتوارى الإحساس أكثر فأكثر (...) النقاهة هي أخبار البعيد، ليس ذاك الذي نلمحه عبر النافذة مرسلاً إلى الروح نداءاتٍ خجولة، وإنما ذاك الذي نحمله فينا".
على عكس روائيّي القرن التاسع عشر، لم يرَ أدباءُ القرن العشرين الذين خبروا أهوال الحرب وبؤس الخنادق والأعضاء المبتورة، (في مقدمتهم الكاتبان الطبيبان، الفرنسي سيلين الذي قاتل بشجاعة، والألماني ألفريد دوبلن الذي ألحق بالمعسكر الطبي)، في فترة النقاهة أيّ رومنطيقية، بل إنهم اعتبروها رديفاً للجحيم ولكوارث الأزمنة الحديثة، حيث يسود النزاع من أجل البقاء على قيد الحياة، ويبلغ العذابُ والوجعُ وقرفُ العيش درجاتٍ قصوى. وبهذا، تتحول فكرة النقاهة إلى أداة تعبير دقيقة ومرآة عاكسة لعصرها.
في النهاية، يخلص الباحثُ دانييل ميناجيه، في عمله القيّم الذي يعيد قراءة أمهات الكتب ويُدخلنا عالمَ الرواية العالمية من بابٍ جديد، إلى أن الغرب لطالما وجد صعوبةً في تقبّل الفترات الانتقالية، غير المستقرة، معلّقاً: "لقد دخلنا في عصر الهشاشة".