اليهودية والصهيونية .. المراجعة الضرورية
مؤكّدٌ أن القضية الفلسطينية تمر بأسوأ مراحلها، لأسباب كثيرة، منها ما يرتبط بالانقسام الفلسطيني، ومنها ما يرتبط بالمتغيرات الإقليمية التي تشكّل اتفاقاتُ التطبيع بين دول عربية وإسرائيل طورَها الراهنَ، بما يحيل إليه من تردٍّ غير مسبوق في المشهد العربي. وحين تقوم الدنيا ولا تقعد داخل الأوساط الصهيونية بسبب إعادة الممثلة الأميركية إيما واتسون نشر تدوينة مرفقةٍ بصورة متظاهرين مؤيدين للشعب الفلسطيني، فإن ذلك يؤشّر على تحوّل نوعي في تعاطي الرأي العام الغربي مع هذه القضية، غير أن هذا التحوّل قد لا يفرز تداعياته المنشودة ما لم تسنده مراجعة فكرية وسياسية تقع على كاهل حركات وتنظيمات سياسية فلسطينية وعربية، وتحديداً ما يتعلق بالتمييز بين اليهودية ديناً سماوياً والصهيونية حركة استعمارية تستهدف احتلال فلسطين واجتثاث شعبها وإقامة وطن قومي لليهود، لأن استمرار الالتباس بينهما، في تمثلات الرأي العام العربي، لا يضرّ فقط بالقضية الفلسطينية، بل يقدّم موارد مجانية للكيان الصهيوني لتعزيز سرديته وفتح دروب جديدة أمامها في مختلف الجغرافيات الثقافية، بما يجعل تهمة ''معاداة السامية'' جاهزة لإشهارها في وجه من يقول كلمة حقٍّ تأييداً للحق الفلسطيني.
من ثَمَّ، باتت الحاجة ملحّة لإغناء السردية الفلسطينية بمراجعة المرجعيات والمواثيق والأوراق التأسيسية التي تستند إليها تنظيماتٌ إسلامية فلسطينية وعربية في رؤيتها للصراع وتحوّلاته، بل تتخطّاها نحو انفتاح ممنهج على حركات وأوساط يهودية مناهضة لإسرائيل، بما لا يسهم فقط في إرباك المشروع الصهيوني، بل يسحب البساط من تحت كل من يرفع شعار مكافحة ''الإرهاب الإسلامي'' الذي تتذرّع به القوى الغربية الكبرى الداعمة لإسرائيل. صحيحٌ أن حركة حماس كانت قد أكّدت، في وثيقة المبادئ والسياسات العامة (2017)، أنها ''لا تخوض صراعاً ضد اليهود لكونهم يهوداً، وإنما ضد الصهاينة (..)''، إلا أن ذلك لا يبدو كافياً، ليس فقط بسبب عدم تمييز ميثاق تأسيسها (1988) بين اليهودية والصهيونية، ولكن أيضاً لأنه يحرم القضية الفلسطينية من مناصرين كثر، يحول ترددُ "حماس"، وغيرها من تشكيلات الإسلام السياسي، في الفصل الصريح بين اليهودية والصهيونية من دون انضمامهم للمعسكر المناهض للسياسات الإسرائيلية. وتصبح هذه المراجعة أكثر إلحاحاً حين نعلم أن هناك يهوداً غير صهاينة وحركاتٍ يهوديةً ترفض الصهيونية ولا تعترف بإسرائيل، وفي مقدمتها حركة ناطوري كارتا المعروفة بعدائها إسرائيل، هذا من دون إغفال المكاسب التي حققتها حركة مقاطعة إسرائيل. ولسنا في حاجةٍ للتذكير بالفشل الذريع للنخب العربية، خلال النصف الأول من القرن المنصرم، في إدارة ملف اليهود العرب الذين وجدوا أنفسهم، في لحظة تاريخية فارقة، بين مطرقة ضغوط الحركة الصهيونية وسندان رأيٍ عامٍّ عربيٍّ لم يجد في هذه النخب ما يُسعفه للتعاطي بنضجٍ أكثر مع تمدّد هذه الحركة داخل الأوساط اليهودية العربية.
تتحكّم هذه الحركة في معظم وسائل الإعلام الأميركية من صحافة وتلفزيون ودعاية وسينما ونشر وغيرها. وقد مكّنها ذلك من التأثير في الرأي العام الغربي عقوداً، مستغلّةً التخلف العام الذي ترزح تحت وطأته المجتمعات العربية، لكن إمعان دولة الاحتلال في تقتيل الفلسطينيين وتشريدهم وتجويعهم جعل فنانين ومثقفين وكتّاباً غربيين يعيدون النظر في السردية الإسرائيلية التي ترفع شعار ''معاداة السامية'' لتبرير توحّش هذه الدولة، وينبرون لمناصرة فلسطين وفضح الترّهات التي تتوسّل بها هذه السردية. وهو أمر ينطوي على دلالاتٍ كثيرة في ظل المأزق الذي تمر منه القضية الفلسطينية.
آن الأوان كي يستثمر الفلسطينيون التراجعات التي صارت تسجلها إسرائيل داخل الرأي العام الغربي، بالتوازي مع ما تحقّق من مكاسب على الجبهات القانونية والحقوقية والثقافية والإعلامية التي فُتحت خلال السنوات الأخيرة. وقد كان دالاً ما قاله الجنرال الإسرائيلي، يوسي كوبرفاسر، قبل فترة، بشأن التراجع في ''معركة الوعي'' أمام الفلسطينيين، الأمر الذي يفرض على الجانب الفلسطيني (والعربي) إنجاز مراجعة فكرية شاملة بشأن جذور الصراع وخلفياته الرئيسة.