انقلاب النيجر تهديداً وجودياً في لغة الاستراتيجية
للمرة الثالثة، يقع انقلاب في بلد ساحلي أفريقي سبقه، منذ عام 2020 انقلابان في مالي ثم بوركينا فاسو، وهي بلدان تشترك في أنها بؤرة أخطر مثلث للإرهاب وعدم الاستقرار في منطقة تمتد إلى عدّة ملايين من الكيلومترات المربعة، في قلب الصحراء الكبرى، بتضاريس صعبة وظروف اقتصادية أصعب، مع استثناء يوجد الاستغراب لوقوع انقلاب وُصف بالمفاجئ، على غرار سابقيْه، ذلك أنّ المنطقة تزخر بوجود آلاف من الجنود، قواعد عسكرية بعتاد عسكري متطوّر جدّاً وأعين الاستخبارات عليها، باستمرار، عبر الأقمار الصناعية وأجهزة التنصُّت عالية الجودة، إضافة إلى التّدخُلات العسكرية الدّولية التي زادت من وتيرة الخصوصية التي تتمتّع بها هذه البلدان أمنياً ودفاعياً.
طبعاً، لا يمكننا التغافل على التنافس الدُّولي المحتدم على معادن المنطقة ومواردها، كما لا يمكننا التّغافل، أيضاً، على تمدُّد الهشاشة من السُّودان إلى تشاد مرورا بالبلدان الثّلاثة (مالي والنيجر وبوركينا فاسو) وصولاً إلى ليبيا شمالاً، ما يفتح الباب، واسعاً، على مصراعيه، لتقدير التهديد الوجودي وترجمته الحقيقية، في لغة الاستراتيجية، المكاسب والخسائر لكلّ من القوى المنخرطة في لعبة الأدوار الاستراتيجية، في المنطقة، في أعقاب انقلاب النيجر وللجوار الجيوسياسي، أي المغرب العربي، خصوصاً الجزائر.
تحتلُّ فرنسا مكانة محورية في التنافس على المنطقة، بحكم أنّها القوة الاستعمارية السابقة للبلدان الساحلية، من ناحية، واحتفاظها، بعد موجة الاستقلال تلك البلدان، على وجودٍ متعدّد الأشكال، اقتصادي واستراتيجي، ما جعل من تلك البلدان تنتقل من استعمار رسمي إلى استعمار جديد مقنّع تمثّله، بصفة خاصّة، طبيعة العملة (الفرنك الأفريقي) واتفاقيات الدفاع التي تجعل من الوجود الفرنسي (قواعد عسكرية وجنود بالآلاف) رسمياً، ليسهم ذلك، كله، في إفقار السّاحل وجعله تابعاً، وظيفياً وعضوياً، لفرنسا. وهذه هي نقطة البداية لقصّة الفوضى وعدم الاستقرار لكلّ المنطقة منذ ستينيات القرن الماضي، تاريخ استقلال منطقة السّاحل عن فرنسا، ومؤشره عدد الانقلابات وفشل التّنمية، بل فشل الدّولة بمرجعية مضامين التقارير الدولية، سواء منها التي تهتمُّ بالتّنمية البشرية أو بمؤشّرات استقرار البلدان (مؤشّر فشل الدولة الذي تصدره، دورياً، مؤسّسة السلام الأميركية ومجلة فورين بوليسي).
روسيا والصّين أصبحتا تتمتعان بوضع استراتيجي أفضل، باعتبارهما بديلاً عن النموذج الفرنسي مع لعبة أدوار متكاملة
بالنتيجة، حسابات الخسائر، بالنسبة لفرنسا، مؤكّدة، خصوصاً أنّ ما وقع في النيجر يتزامن مع انسحاب باريس من مالي بعد فشل عملية براخان، وبروز أنّ عديداً من البلدان الأفريقية، ولا سيما في منطقة الساحل، رافضة الوجود الفرنسي، وتعمل على تحويل ذلك الرفض إلى تنديد بالتّعامل الفرنسي، في كلّ المجالات، إضافة إلى تفضيل تلك البلدان البحث عن شراكاتٍ ندّية، وبأكثر مكاسب لها، سواء مع الصّين أو روسيا.
بحسابات الرّبح والخسارة، فإنّ روسيا والصّين أصبحتا تتمتعان بوضع استراتيجي أفضل، باعتبارهما بديلاً عن النموذج الفرنسي مع لعبة أدوار متكاملة، أو تكاد تكون كذلك، في إدراك الغرب، خصوصاً أميركا، بين القوتين العظميين، حيث تؤدّي الصّين دوراً اقتصادياً في حين تضطلع روسيا بدور الحماية لخيارات الساحل في البحث عن شراكاتٍ خارج الدائرة الغربية أو الفرنسية، بصفة خاصّة.
يشكّل وجود "فاغنر"، بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في روسيا (والحاملة كثيراً من احتمالات إرادة تغيير دور بريغوجين ومليشياته، في العالم، خصوصاً في أفريقيا)، في السّاحل عاملاً يساعد على فهم توجّه خيارات التّنافس الدُّولي نحو عروض بشراكات يمكن المناورة بينها. ولكنها، أكيد، بخلفية براغماتية، بمعنى أن لعبة الأدوار الصّينية والرُّوسية، من ناحية، وحسابات المكاسب والخسائر، لكل منهما، من ناحية أخرى، ستعمل على تكرار نموذج مالي، أي فشل كل وساطات العودة إلى النهج الدستوري، بل سيكون السيناريو هو مرحلة انتقالية مع عودة إلى الشرعية بعد فترةٍ لا تقلّ عن عام ونصف العام، كما جرى في مالي من قبل.
حسابات الخسائر، بالنسبة لفرنسا، مؤكّدة، خصوصاً أنّ ما وقع في النيجر يتزامن مع انسحاب باريس من مالي بعد فشل عملية براخان
ولكن، ثمّة سيناريو آخر، يعزّزه، بصفة كبيرة، حجم الارتباط بين مفاعلات فرنسا ويورانيوم النيجر، قد يؤدّي إلى تدخل فرنسي تحت غطاء مجموعة "إيكواس" التّي هدّدت بذلك، وأمهلت سلطات نيامي الجديدة أسبوعاً واحداً فقط لعودة الرئيس المخلوع محمّد بازوم. وقد يكون مؤشّر ترحيل فرنسا رعاياها ودبلوماسييها من النيجر دليلاً على أنّ تطوُّرات الأمور لن تكون سلمية، بالنّظر إلى حيوية الحاجة الفرنسية إلى ما نسبته 35% من اليورانيوم لتشغيل مفاعلاتها، إضافة إلى التردُّد الأميركي بشأن قاعدة المسيّرات والألف جندي أميركي الذّين لا يمكن التخلّي عن وجودهم هناك، خصوصاً مع تمدُّد الهشاشة التّي تحدّثنا عنها من السودان جنوباً إلى ليبيا شمالاً مروراً بمنطقة الساحل، برمتها، إذ يمكن للوضع أن يكون فرصةً لارتفاع وتيرة العمليات الإرهابية.
يشير السيناريو المشار إليه إلى دور روسي مُحتمل قد يأتي على شاكلة ما حدث في مالي، بحيث تعمل سلطات النيجر على طلب تدخُّل المليشيات الرّوسية، فاغنر، لحماية البلاد، ويعزّز هذا الأمر بيان نشرته سلطتا بوركينافاسو ومالي الانقلابيتان، رافضتا فيه تهديدات التّدخُّل، سواء الفرنسية أو الغرب أفريقية، من خلال منظمة إيكواس، ليتولّد عن هذا التدخل الروسي المحتمل هلال "فاغنر" الذي ازداد الحديث عنه في وسائل الإعلام وفي تحليلات الاستراتيجيين بشأن توجّهات الأوضاع في الساحل، على وقع انقلاب النيجر.
نأتي، الآن، إلى تقدير حسابات الربح والخسائر شمالاً أي بالنسبة لمنطقة المغرب العربي وبخاصة الجزائر التي تتحمّل، منذ 2012، تاريخ انقلاب مالي، وتمدّد الفوضى نحو ليبيا، تبعات عدم الاستقرار والفوضى بتعبئة للجيش وبتكلفة اقتصادية عالية، لكنّها أكسبت الدّور الجزائري حيوية وتجربة في التعامل مع اللحظات الحرجة، بالمعنى الاستراتيجي. وكأنّ الفوضى وعدم الاستقرار مبرمجان ويتم تمدّدهما تباعاً، ما يضغط، أكثر، على الجزائر التي لا تنفكّ تحاول احتواء الأوضاع السيئة في حدودها مع ليبيا ومالي ثمّ، الآن، النيجر، من دون إغفال أنّ الهشاشة القادمة تعدّدت أشكالها من هجرة غير شرعية، جماعات إرهابية، دفع دول الغرب الفدى لتحرير رهائنها، ما يكسب الجماعات الإرهابية قوّة وتمكينا، مروراً بالإشكالات الخاصة بالزيادة السكانية الكبيرة المتزامنة مع أوضاع اقتصادية مزرية في الساحل، ووصولاً إلى الخروج عن النهج الدستوري بالانقلابات في أخطر منطقة ساحلية، وانتهاء، طبعاً، بالانسحاب الفرنسي من خلال الإنهاء الفعلي لعملية براخان، وهي كلها، كما نرى، عوامل مثبطة تحتاج إلى كثير من الحكمة والإدراك الاستراتيجي للتعامل معها قد تكون زيارات الرئيس الجزائري، عبد المجيد تبون، أخيراً، إلى كل من روسيا والصين وتركيا، مفتاحاً لقراءة تقديرات الربح والخسارة في العقل الاستراتيجي الجزائري.
انقطاع إمدادات اليورانيوم من النيجر في حال نشوب حربٍ ستكون له نتائج وخيمة على الوضع الداخلي الفرنسي الهشّ
تفيد تلك التّقديرات، مبدئياً، بأنّ كل ما من شأنه احتواء تمدُّد الفوضى والإبقاء على الوضع على ما هو عليه هو ربح في الحسابات الجزائرية التي ستعمل على تأثير اللُّجوء إلى القوة، سواء من الجانب الفرنسي أو من جانب "إيكواس". ولهذا، مرّ الرّئيس تبون بتركيا لفكّ عقدة الحالة الليبية، كما حاول وزير الخارجية تلمُّس توجّهات الأطراف المالية لتجسيد اتّفاق الجزائر لعام 2015، إضافة إلى محادثات الرئيس مع بوتين التّي قد يكون لها أثر في توجيه محدّد للدور الروسي في النيجر، بما يخدم احتواء الفوضى وعدم الاستقرار وعدم تمددهما.
يبقى الهاجس الفرنسي من إمكانية أن تنقطع إمدادات اليورانيوم عن مفاعلاتها النّووية المولّدة للكهرباء في فرنسا، وهو أمر ستعمل الجزائر على أن يتحوّل إلى عامل مساعد ومحفّز على التّوجُّه نحو حلّ عقدة الانقلاب، وليس التدخُّل العسكري، بالنظر إلى أنّ انقطاع الإمدادات في حال نشوب حربٍ ستكون له نتائج وخيمة على الوضع الداخلي الفرنسي الهشّ، أصلاً بسبب الأوضاع الاقتصادية الحرجة التّي تمرُّ بها فرنسا، خصوصاٍ على الصعيد الطاقوي، في الآونة الأخيرة.
تلك هي تقديرات التهديد أو المكاسب والخسائر، بلغة الاستراتيجية، وهي، كما نرى، مُعقّدة جداً قد تذهب بالمنطقة إلى حلّ سلمي وترتيب البيت الساحلي، نهائياً، بالمقاربات الاقتصادية والاستراتيجية الرابحة للكلّ كما قد تتجّه بها، إذا جرى التوجُّه نحو حلّ صلب، بالتّدخُّل العسكري، نحو مزيدٍ من الفوضى التّي قد تحمل في جعبتها ارتفاعاً لوتيرة عدم الاستقرار. لكنّ، هذه المرّة، على الأصعدة كافة، بخاصة نحو الشمال، وما يحمله ذلك من جحافل اللاجئين والمهاجرين غير الشرعيين نحو أوروبا، بصفة خاصة، ولكم أن تتصورا من سيدفع الفاتورة، حينئذ، وحينها لن يكون الحديث إلّا عن الخسائر وللكلّ.