برلمان تونسي من دون رهانات
تنشر الهيئة العليا المستقلة للانتخابات في تونس التي عيّنها الرئيس قيس سعيّد بياناتٍ تفيد مثلاً بأن عشرة مترشّحين سيكونون في البرلمان، بقطع النظر عن نتائج الانتخابات التي لم تجر بعد، ومن دون اعتبار نسب الاقتراع، وغيرها من المسائل القانونية الأخرى. هذه مؤشّرات دالّة على مناخ انتخابي لا تشي وقائعه الجارية بأن البلاد ستشهد انتخابات حقيقية الشهر المقبل (ديسمبر/ كانون الأول). علينا أن نقرّ بأن العزوف الانتخابي، علاوة على لامبالاة الناخبين تجاه الشأن العام، قد بدأ نسبياً قبل ذلك بكثير. وقد تكون انتخابات 2014 علامة فارقة في تحوّل المزاج السياسي العام، إثر الارتباك الكبير الذي عرفته فترة المجلس الوطني التأسيسي، رغم كل المكتسبات التي حدثت آنذاك: قوانين تحرّرية فتحت الفضاء العمومي على المشاركة السياسة والحقوق الفردية والعامة ودستور ريادي. غير أن هذه المكتسبات التي لم ترافقها إنجازات اقتصادية، على غرار التنمية العادلة والتشغيل، قد دفعت شرائح عريضة إلى الابتعاد عن الشأن السياسي والنزوح نحو الحركات الاجتماعية الشبابية، ثم رد فعلي جيلي لا يمكن التغافل عنه، فكأن الشباب تحديداً شعر بأنه جرى التخلي عن انتظاراته وحاجاته الأكثر إلحاحاً.
تشكّلت حركات اجتماعية ذات بعد احتجاجي لم يخلُ أحياناً من غلوّ وعدمية شلّا المرافق العامة في حالات عديدة، ولكنها كانت، في النهاية، تعبيراً عن تبرّم وإحباط كبيريْن. كانت تلك الحركات الاحتجاجية ذات النفس الشبابي مشاركة في الشأن العام، وإن بطريقةٍ لا تخلو من النفور من السياسة، غير أنها، وفي مفارقة طريفة، كانت تفعل السياسة على نحو آخر. لا يمكن نكران أن لها وشائج قربى مع الأحزاب السياسية. تشهد مظاهرات ووقفات احتجاجية كثيرة نظمت بمشاركة الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، فضلاً عن وجوه سياسية بارزة، على صلات وثيقة بين هذه الحركات الاحتجاجية وطيف واسع من المعارضة الحزبية. كانت هذه العلاقة المركّبة والمعقدة بين الحركات الاحتجاجية والحركة السياسية عامة محل خلافاتٍ معقّدة بين مختلف الفاعلين الذين قادوا هذه الحركات. تشهد كتابات قادة هذه الحركات عن عمق الخلاف النظري والعملي على هذه المسألة بالذات، والتي أدّت، فيما بعد، إلى تشتتها وضعفها.
لم يتعظ الرئيس سعيّد من نتائج الاستفتاء على الدستور، وظلّ يدافع، في عناد غريب، عن الالتفاف الشعبي حوله
يدرك الرئيس سعيّد أن الشباب كان عند انقلابه على هامش العملية السياسية التي كانت قد تشكّلت ملامحها خلال العشرية الماضية. ولذلك سارع بالادّعاء أنهم يمثلون رأسماله الشعبي. والحال أن قاعدته الانتخابية التي صعّدته في أثناء انتخابات 2019 رئيساً للبلاد كانت من الكهول بل من المسنين، إذا لم يقبل على انتخابه سوى ما يناهز خمس الجسم الانتخابي. تماماً كما كان بن علي يدّعي أن "الشباب معه"، حين رفع على الأعناق في يوم انقلابه، والناس يصفونه تملقاً بالرئيس الشاب، ويرفعون هتافات تدغدغ شبابه الذي جدّدته سلطة انقلاب طبي على بورقيبة الهرم المسنّ.
تشير الوقائع التي تنشرها بين حين وآخر الهيئة العليا للانتخابات، أو مختلف الجمعيات التي تراقب الانتخابات، إلى عدم الترشّح أصلاً في سبع دوائر انتخابية كلها في الخارج. أما الذين سيفوزون حتماً، من دون حاجةٍ إلى انتظار نتائج الانتخابات، فهم في حدود العشرة نواب، كما ذُكر سابقاً. وتؤكّد المصادر نفسها أن نسبة الشباب من المترشّحين ضعيفة، يضاف إلى ذلك الحضور الباهت للنساء في قوائم المترشّحين المقبولين. الأسباب عديدة، وهي ليست مجرّد أسباب تقنية مرتبطة بالقانون الانتخابي، على غرار منع التمويل العمومي في الحملة الانتخابية، وإلغاء التناصف الذي نص عليه القانون الانتخابي السابق قبل تعديله بعيد الانقلاب.. إلخ، ولكن الإحباطات المتراكمة وخيبة الشباب وعموم الناس من المسارين السياسي والانتخابي معاً هي التي تدفع هؤلاء جميعاً إلى هجران المسار السياسي عموماً. لم يتعظ الرئيس من نتائج الاستفتاء على الدستور، وظلّ يدافع، في عناد غريب، عن الالتفاف الشعبي حوله، مشيراً إلى المؤامرات التي حيكت لإفشاله، والحال أن من دعوا إلى هذا عقدوا ندواتٍ، وأصدروا بيانات علنية، ولا يحتاجون إلى "الغرف المظلمة"، حتى يصدحوا بمواقفهم تلك.
ديمقراطية شعبية على شاكلة الأنظمة الشمولية، ولكن بنكهة القبيلة والعرش والجهة والمنطقة
يكتوي التونسيون بغلاء الأسعار وفقدان مواد غذائية عديدة وتردّي الخدمات الاجتماعية، وجهات عديدة في البلاد تنام على أحزان حدادٍ مستحيل، وهي تدفن يومياً شباباً يبتلعه البحر. في هذه المناخات، تنطلق عن قريب الحملة الانتخابية التي لن تثير اهتمام الناس، وهي الخالية من كل رهان. الاقتراع على الأفراد غيّب الصراعات السياسية والأيديولوجية التي تطبع عامة الحملات الانتخابية في كل الديمقراطيات، خصوصاً أن الأحزاب مُنعت بحكم القانون الجديد من التعبير عن هويتها وأطروحاتها، فليس من حقّ الأفراد، حتى مجرّد الإشارة إلى ذلك. يحرص الرئيس على أن نعيش معه عصر الديمقراطية الخالية من الأحزاب، وها نحن نقف على ديمقراطية شعبية على شاكلة الأنظمة الشمولية، ولكن بنكهة القبيلة والعرش والجهة والمنطقة، وشتّى الانتماءات القرابية الأخرى التي لا ينتكس إليها الفكر السياسي التونسي فحسب، بل يهوي إليها المجتمع بأكمله، بعد "صعوده الشاهق". لن تكون للمترشّحين الصاعدين إلى البرلمان المقبل من شرعية سوى الحشد القرابي والقدرة على "الفزوع" القبلي القديم الذي قد يجدّد جلدةً خلنا أنها انقرضت منذ عقود.