بيكاسو والنساء
لا نفضح سرّا إذا قلنا إن بيكاسو (1881- 1973) كان محبّا بشدّة للنساء، وإنه استمرّ حتى عمرٍ متقدّم يسعى وراء رغبته بهن، وهي رغبةٌ تعاظم تأثيرُها عليهنّ بقدر تعاظمِ شهرتِه فنّانًا أحدث ثورة في الفنّ التشكيلي، وجابت لوحاتُه وأخبارُه العالم. وفي إحصائيةٍ بسيطة لعلاقاته العاطفيّة، يتّضح أنه لم يكن يُغرَم بهؤلاء النساء فحسب، بل أنه كان وكأنّه يتغذّى بنسغهنّ لكي يُنتج ويعمل، إذ كنّ يتحوّلن ربّات إلهامٍ ثم موضوعاً للّوحة، قبل أن ينتهين زوجاتٍ وحبيباتٍ وعشيقاتٍ عاديات و"دنيويات"، وإذًا قابلاتٍ للاستبدال.
كانت فرناند أوليفييه الأولى في حياته، وقد تعرّف إليها بعد انتقاله إلى باريس عام 1904، واستقرا معا نحو سبع سنوات كانت خلالها المُلهمة لما يقارب 60 لوحة. لكنّ فرناند تعرّفت إلى رسّام إيطالي أغرمت به، فعانى بيكاسو من خيانتها وبذل ما في وسعه لمنعها من الرحيل، لكن الانفصال تمّ تاركا الفنّان الشاب منهارًا، قبل أن يجد العزاء مع صديقتها إيفا غُويل التي لسببٍ غامض لم يرسمها، ولم يُعرَف الكثير عن علاقةٍ استمرّت ثلاث سنوات، وانتهت بوفاتها بمرض السلّ، ما أدخل بيكاسو مرّة أخرى في كابوس الفقد. في منتصف عام 1916، غادر بيكاسو باريس إلى روما، وهناك أغرم براقصة باليه روسية، تدعى أولغا خوخوفا، أصبحت لاحقا من أهم نساء حياته، فقد تزوّجها وجعلته والدا بعد عامين، استمر ارتباطهما 10 سنوات، وكان لها كبير التأثير على رؤيته إلى المرأة وكيفية تجسيدها في لوحاته. ومع ذلك، لم يكن بيكاسو مخلصا لها، بل عُرف بتعدّد علاقاته الجانبية التي أدّت إلى حمْل إحداهن، ما دفع أولغا إلى الانتقال إلى جنوب فرنسا مع ابنها، بعد أن رفض بيكاسو طلبها الطلاق، فبقيت زوجته حتى مماتها عام 1955، برغم تدهور صحتها العقلية.
في السادسة والأربعين من عمره، أُغرم بيكاسو بماري تريز والتر، وكانت ابنة 17 عاما، فمنحته طفلة واعتبرَها ملهمتَه المثالية في فترته السوريالية. وبرغم ولعه بها، استمرّ يعاشر أخرياتٍ إلى أن التقى دورا مار عام 1935، فوقع في غرامها. كانت سيدة مميزة، فهي رسّامة ومصوّرة سوريالية تعاونت مع جان رينوار وجورج باتاي وبول إيلوار، وكان لها أثر محفّز على مخيلته ونتاجه في القسم الثاني من مرحلته التكعيبية. لكن، بعد سبع سنوات، تركها من أجل فرانسواز جيلو التي أنجبت منه طفلين، وكان هو في الستين وفي ذروة مجده، وهي رسّامة مبتدئة في الواحدة والعشرين. ولكي لا تنتهي كالأخريات، قرّرت فرانسواز، "المرأة التي تقول لا" كما لُقّبت، ترك "بيكاسو الذي لا يُترك" كما ردّ عليها حين أبلغته بقرارها (1953). وبعد مرور 12 عاما، نشرت فرانسواز كتابها "الحياة مع بيكاسو" الذي أقام الدنيا ولم يقعدها آنذاك ... أخيرا، تعرّف بيكاسو (70 عاما) إلى جاكلين روك (27 عاما)، فكانت زوجته الرسمية الثانية التي أمضى معها بقية حياته، حتى 1973، ورسم لها ما يقارب 400 بورتريه.
اليوم، ومع حلول الذكرى الخمسين لوفاة من يُعدّ أهمّ فنّان في القرن العشرين، واستعادة إرثه الفني من خلال إقامة المعارض هنا وهناك في إطار احتفاليّة كبيرة، ثمّة أصوات عديدة معترضة تقول بوجوب محاكمة بيكاسو على ذكوريّته المُفرطة وسوء معاملته التاريخيّة النساء. وإن خرجت ادّعاءاتٌ لم تثبت صحّتُها عن ممارسة بيكاسو العنف الجسدي على نسائه، فإنّ الثابت امتلاكه شخصيةً طاغيةً، وحضوراً مهيمناً، وقابليةً جنسيةً لا تشبع، وميلاً إلى استغلال المرأة عاطفياً وتحويلها من غايةٍ إلى وسيلة. لذا، فإذا كان لا بد من الاعتراف بأن بيكاسو الرجل ارتكب أخطاءً من نوع الخيانة الزوجية وتعدّد العلاقات والتلاعب بمشاعر الحبيبات، فهذا لا يجعله مجرما مثل الذين استخدموا العنف في أشكاله المختلفة، مارسوا الاغتصاب أو كانوا متحرّشين. وبهذا المعنى، تبدو المطالبة المتنامية بمنع عرض أعماله، أو بمقاطعة فنّه ومحاكمته أخلاقياً، من ضروب التطرّف والمغالاة، ويمكن اعتبارها ربما أحد الأضرار الجانبية القليلة لحركة "مي تو" التي تبقى، رغم كل شيء، محقّةً وضروريةً وعادلة.