بين قمح مرسي وقمح ياسر جلال
يكشف طوفان الأكاذيب المصنّعة بإتقان في مسلسل "الاختيار" أنّ عبد الفتاح السيسي يشعر وكأنّ الرئيس الشهيد، محمد مرسي، يطارده، ويلاحقه أينما ذهب، فيلجأ إلى ألاعيب الدراما في محاولة لتغيير الواقع الذي يحاصره.
والحال كذلك، فإنّ كل ما يتحدّث عنه الناس عن فضائل لدى محمد مرسي، يسعى عبد الفتاح السيسي لمصادرته لحسابه عن طريق الدراما، عن طريق تحويل كل ما رآه الناس ميزةً عند مرسي إلى عيب وخطيئة، من منظور صنّاع المسلسل، ثم في مرحلة لاحقة، أو بالتوازي، تُودَع هذه الميزات أو الفضائل في حساب السيسي.
صاحب المسلسل وصنّاعه يستخدمون أعنف أنواع الأسلحة، وأقذرها في الحرب على ذكرى الرجل الذي قتلوه، بالمفهوم المادي للقتل، ويريدون قتله مجدّدًا، معنويًا وتاريخيًا، من دون أن يحققوا أيّ نجاح يذكر في صناعة صورة للرجل يكرهها الجمهور أو يصب لعناته عليها.
بمرور الوقت، تحوّل المسلسل إلى كوميديا رخيصة تسخر منها أغلبية الجمهور المصري والعربي، كوميديا يضحكون عليها، كلما أمعن صاحب المسلسل ومؤلّفه ومنتجه الذي هو عبد الفتاح السيسي، في نهاية المطاف، أن ينتحل كل ما يحتفظ به الناس باعتباره إيجابياتٍ عند الضحية، المستهدف بهذا الإنتاج الدرامي الضخم، وهو الشهيد مرسي.
غير أن المسألة تجاوزت نطاق الدراما إلى الواقع الفعلي، فصار السيسي يلاحق كل أثرٍ طيب، أو ذكرى جيدة للشهيد مرسي، ويقلد كل ما هو منسوب إليه بركاكة، تنطق بأنّ المطاردة مستمرّة ومؤرّقة للجنرال المسكون، الذي ينظر خلفه، مذعورًا من شبح الضحية، أكثر مما ينظر إلى الأمام.
وبالإضافة إلى أنّ الجنرال مسكونٌ بوهم القدرة على التخلص من الجريمة وإخفاء معالمها عن طريق الخدع الدرامية، فإنه، في الوقت ذاته، يعتمد استراتيجية الاستحواذ على كلّ تركة الشهيد مرسي، بما فيها كل الذين كانوا أصدقاءه في السياسة الدولية والإقليمية.
مشهد السيسي وهو يتفقد القمح في توشكي، عند الفجر والناس نيام، ويعلن حصاد المحصول، هو محاكاة فقيرة وانتحالٌ مضحكٌ لأهم الإنجازات الفعلية، التي تحققت، واقعيًا لا تلفزيونيًا، في سنة أو أقل هي عمر الرئيس محمد مرسي في الحكم، مع فارق أساس وجوهري، أنّ السيسي ذهب إلى توشكي ليمثّل دور البطل، رجل القمح، بينما كان الرئيس مرسي يقف بين الأبطال الحقيقيين للإنجاز، وهم زرّاع القمح من الفلاحين البسطاء في دلتا مصر، ويشكرهم على الاقتراب من حدود المعجزة.
في مشهد السيسي في توشكي استخدموا عنصر الصورة، وميكانيزمات البهرجة والإبهار لترويج زفّة الجنرال على القمح، فيما كانت الأرقام الفعلية التي يصدقها الواقع هي مفردات وقفة مرسي وسط صنّاع معجزة القمح. في ذلك الوقت، كان سؤال القمح هو ما يشغلني حين شاركت في لقاء مع الرئيس مرسي بقصر القبة ربيع 2013 ضمن مجموعة من السياسيين والكتّاب: هل حقًا اقتربنا من حدود الاكتفاء الذاتي من القمح، أم أنها محاولة للتحفيز ورفع معنويات الناس؟ وهنالك تطرّق الرئيس إلى الموضوع في سياق شرحه معطيات الأوضاع الحالية، مشيرا إلى مجموعة من الأرقام ذات الدلالات الخطيرة في معركة مصر لامتلاك خبزها بعد الثورة، حيث قال: أنتجنا خمسة ملايين ونصف المليون طن قمحا عام 2011، ارتفعت إلى سبعة ملايين ونصف المليون طن في 2012، ثم قفزت إلى ما بين تسعة ونصف إلى عشرة ملايين طن في 2013.
توقفت وقتها عند دلالة الأرقام، فوجدت أنّ مصر بعد ثورة يناير قرّرت، من دون شعارات ولا أناشيد وطنية حماسية، أن تمارس فعل التحرّر الغذائي، وفي الظروف بالغة الصعوبة، أمنيا ومجتمعيا، في أول عامين بعد الثورة، كان هناك فلاحون يبدعون في صمت، ويعزفون لحن الكرامة، غير عابئين ببارونات الكلام والسفسطة وزرّاع الغل والكراهية.
الآن، وبعد أن قتلوا الرجل، ثم أضرموا في ذكراه نيران دراما كاذبة ومنحطّة، تبحث عن الأرقام فلا تجد سوى الصور الزائفة مع القمح عن بعد، لا يستطيعون الاقتراب، لأنّ في كل سنبلة مائة قطرة من دماء ضحايا أبرياء، تصرخ في وجوه القتلة: لكم دراما الكذب العابرة، ولنا الخلود.
مسكين ياسر جلال، لا يريد أن يفهم أن بالإمكان قتل صاحب الحق، لكنه من المستحيل أن يؤدّي ذلك إلى قتل الحقيقة نفسها، أو التحايل على التاريخ.