تجنّباً للإحراج
أينما ذهبت في "روتينك" اليوم، تجد نفسك مضطرّاً إلى مدّ يدك إلى جيبك، لدفع الإكراميات، كأنّك آلة شَقْبيّة (Slot machine)، عليك درّ بعض المال بين الفينة والأخرى، لتسيّر أمورك بسلاسة. مع العلم أنّك تدفع سعرَ الخدمة التي عليك دفع إكراميتها لتعويض العمّال عنها، التي هي بالأصل مرتفعة الثمن، مقارنةً بمعدّل الأجور المُحرِج لمعظم الناس.
في دائرة الحَرَج هذه، لك واسع النظر، وفقاً لقوّة أعصابك. يمكن لك اختيار الامتناع عن إعطاء إكرامية في مكان لن تعود إليه، لكن في مقهاك أو مطعمك أو صالونك الذي ترتاده بانتظام، من الأفضل لك أداء ربع قيمة القهوة إكرامية، إذا أردت تفادي رداءة الخدمة.
أكثرُ الأماكن غلاءً في الإكراميات ضمن الخدمات الروتينية، هي الصالونات، حيث لا يمكن الاكتفاء بوضع دولار واحد في يد "الكوافير"، أو اختصاصيّة التجميل، التي أمضت أكثر من ساعة في مهمّة لم تعد من أبواب الرفاهيات للمرأة المعاصرة. لذا عليها دفع حوالي 10% من سعر الخدمة للاختصاصيّة، وإلّا فإنّها ستكون مهملة وجافّة في المرّة المُقبلة، ولا يمكن فعل شيء تجاه الأمر حينها. فهي تقوم بعملها كما يجب، واللطف ليس واجباً حسب رأيها إلّا بثمن.
في الفنادق، حدّث ولا حرجَ عن الحرج، رغم أنّها ليست خدمةً يومية، لكنّك تجد نفسك بين المرّة والأخرى ضمن روّادها. عليك وضع يدك في جيبك، منذ لحظة وقوفك أمام الباب. قد تجد نفسك أمام شخصَين يعرضان خدماتهما، غير الضّرورية، مثل فتح باب السيارة، والتقاط حقيبتك الصغيرة. هي خدمة للمسافرين المُرفَّهين المُثقلين، بينما أنت مسافر خفيف الثقل والجيب، لم تضع في حسبانك ميزانيةَ الإكراميات، فتدفع مثلهم ثمنَ خدمةٍ خصّصت لهم.
في المغرب، تسوء الأمور إذا كنتَ تملك سيّارة، إذ يقف عندك شخص عجيب يُطلق عليه "حارس السيّارات"، كلّما ركنت سيارتك في الشارع. بمعنى أنّه إذا كانت لديك مشاوير عديدة في اليوم الواحد، عليك دفع درهمَين كلّما ركنت سيارتك. مع العلم أنّ الحارس لا يملك الشارع، ولا أحدَ شغّله للومه على حرج الإكراميات. فتجد نفسك في نهاية يوم عملكَ آلةً شقبيّة، قد دفعت بين دولارين إلى خمسة دولارات إكرامياتٍ.
ويمكنك التصرّف بلا حرج، فتصرِف نصف المبلغ، لكن عليك أن تبدو بمظهر متواضع، يخفّض من التوقّعات بشأنك، وألّا تكون امرأةً، فالنّساء أحنّ وأكرم، حسب الإشاعة، بينما الحقيقة أنّهن أكثر قابلية للاستفزاز، لذا يشترين راحتهن بدراهم. ولتتخفّف من عبء الإكرامية، عليك ألّا تسعى إلى خدمة معقولة مع صفر نكد.
في محطّات الوقود، يسرع العامل إلى مسح زجاج سيارتك الأمامي في خدمةٍ إضافيةٍ لم تطلبها، لكن، تجنّباً للإحراج، عليك منحه إكرامية. الدفع اختياري هنا، لكنّه ليس كذلك إذا أردت أن تنجو من "الابتزاز المزاجي" للعامل، الذي حتّى لو حسمت أمرك وقرّرت عدم دفع ثمن خدمة لم تطلبها، فإنّ إحساساً خفيّاً بالذنب يرافقك، عدا التعاطف الدائم مع فئات مسحوقة.
تقف أمام إدارة، وتعاني وسط الزحام حاملاً همّ وثيقة يمكن إنجازها في دقائق. سيُطلب منك العودة غداً أو بعد يومَين، لماذا؟ من أجل توقيع رئيس المصلحة الوثيقة فقط، الذي يفضّل جمع وثائق يوم كامل، لتوقيعها دُفعةً واحدةً، حفاظاً على وقت الإدارة... ووقتك؟ ... لا يهم، فأنت مُجرَّد طالب خدمة.
عليك هنا التصرّف، في انتظار إيجاد الإدارات حلّاً لهذه الدوّامة البيروقراطية، وعرض "قهوة" على الموظف، ليقوم من مكتبه ويدخل المكتب المجاور، وبعد دقيقتين تُمسك وثيقتك بيدك. قد يُسمّيها بعضهم رشوةً، لكن يمكنك تسميتها إكراميةً ليقدم لك الموظّف خدمة "VIP"، هي للأمانة، غير مطلوبة منه. يمكن للمتعفّفين عن الموقف تجربة الرجاء، لعلهم ينالون بعض الحظّ في الجانب الآخر من دائرة الحَرَج.
المشكلة ليست في الأفراد الذين يضعون الآخرين في موقف حَرَجٍ، فهم لم يخترعوا الحَرَج، بل في أصحاب تلك المحالّ، الذين يشغلّونهم برواتب هزيلة، لا تُقارَن بأرباحهم، ويُقنعونهم بأنّ الإكراميات تعوّض ضعف الرواتب، فيطالبون بحقّهم من الزّبون بدل المُشغّل، ما يدفعهم إلى مواجهة الزبائن باختراع الحَرَج.