تحوّلات في غرب أفريقيا
لم تكن الانقلابات التي شهدتها أكثر من دولة في غرب أفريقيا، في السنوات الماضية، حدثاً استثنائياً في منطقةٍ لم تعرف الاستقرار السياسي أو الأمني طويلاً، لكنّ تداعياتها تبدو آخذة في التصاعد لتفرض نفسها عاملاً مؤثراً ومُتحكّماً، ليس فقط بعلاقات الدول فيما بينها، بل أيضاً بوضع المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس). تواجه المجموعة اليوم خطراً مُستجدّاً بعد إقدام ثلاث من دولها، بوركينا فاسو ومالي والنيجر، التي يحكمها العسكر، على الانسحاب من المجموعة وتشكيل ما أطلقت عليه هذه الدول "كونفدرالية الساحل".
هذا التحالف، الذي يفتتح عملياً فصلاً جديداً، وليس وحيداً، من الأزمة بين الدول الثلاث والمجموعة، هو قمّة جبل الجليد بعد التطوّرات التي شهدتها المنطقة، خصوصاً عقب التخبّط الذي رافق تعاطي "إيكواس" مع انقلاب النيجر في يوليو/ تموز 2023، بما في ذلك التلويح بتدخّل عسكري لمحاولة إعادة الرئيس المُقال محمد بازوم إلى السلطة، الذي سرعان ما تبخّر ليكشف حجمَ الخلافات في التكتّل والافتقار إلى قوّة فعلية، ما شكّل إشارة التقطها العسكر في الدول الثلاث لاستعجال القطيعة مع المجموعة، من جهة، والتحالف فيما بينهم، من جهة ثانية، لمواجهة أيّ تهديدات.
صحيحٌ أنّ قادة الدول الثلاث كانوا قد انسحبوا من المجموعة على فترات، ونيّتهم لم تكن مبيّتة بشأن الابتعاد الكلّي عنها، إلّا أنّ التعويل على تسويةٍ ما تعيدهم إليها، في الفترة الانتقالية بين قرار الانسحاب ودخوله حيّز التنفيذ، كان ولا يزال قائماً داخل "إيكواس"، وإن كان يبدو غير وارد في المرحلة الراهنة.
وإذا كان الحديث عن خطر آني بتفكّك "إيكواس" قد يبدو مبالغاً فيه، أقلّه إذا ما أُخِذ بالاعتبار ما تُشكّله الدول الثلاث من أصل 15 دولة تضمّها المجموعة، لا سيّما اقتصادياً، لكنّ التقليل من الآثار التي سيتركها الانسحاب على المجموعة، خصوصاً في المستقبل، يبدو في غير محلّه أيضاً، بعدما تبيّن الضعف السياسي للمجموعة، وأنّ بإمكان دول منضوية فيها التكتل في مجموعات صغيرة بعيداً عنها، فضلاً عن قائمة طويلة من المآخذ على عمل المجموعة، وما يراه بعضهم سياسة الكيل بمكيالين، خصوصاً لناحية الصرامة في مواجهة انقلابات عسكرية مباشرة في مقابل غضّ طرف عما يُطلَق عليه "انقلابات دستورية" في دول أخرى.
الخطورة الأبرز في ما يجري كلّه تنبع أولاً من أنّ العسكر الذين أحكموا قبضتهم على السلطات في بلدانهم بحجج من بينها فشل الحكومات المدنية في إبعاد وهزيمة الجماعات المُتشدّدة، والرغبة في التحرّر من "سيطرة القوى الأجنبية"، و"استعادة السيادة الوطنية"، يختارون اللعب بطريقة مغايرة لما هو معتاد. والأمر لا يقتصر على ذهابهم باتجاه تقليص العلاقات مع الغرب فقط، مقابل تعزيزها على نحو غير مسبوق مع روسيا. وهم عوضاً من أن يكونوا محاصرين اتّخذوا خطوات تجعلهم ينقلون الضغوط بعيداً عنهم. جميع المعطيات تُؤكّد أنّ قادة الانقلابات ليسوا في وارد تسليم السلطة لمدنيين في أيّ وقت قريب، وهم يُعوّلون على تقاربهم وتحالفهم لمساندة بعضهم بعضاً، ليس في الفترة القريبة فقط، لكن في المدى المتوسّط، إلّا أنّ صمود تحالفهم قد لا يدوم طويلاً، فالتحالف الجديد أولاً يبقى محدوداً، وقدرته على مواجهة التحدّيات الأمنية تبقى موضع تشكيك، لا سيّما أنّ الآونة الأخيرة لم تُظهر تراجعاً في نشاط الجماعات المُتشدّدة، التي كانت ذريعةً في تبرير الانقلابات. كما أنّ العقبات، في الصعيد الاقتصادي والتكامل، قد لا تطول قبل أن تبدأ في الظهور، خصوصاً بفعل طبيعة اقتصاديات هذه الدول وحاجتها الدائمة إلى التعاون مع دول أخرى في غرب أفريقيا، والتحدّيات الداخلية الأخرى الخاصة بكلّ بلد بشكل منفصل، ما يجعل من هذه التحوّلات في غرب أفريقيا مُجرّد بداية لمشهد قد يصبح أكثر تعقيداً.