حرب النفوذ في المحيطين الهندي والهادئ
من يتابع أخبار المحيطين، الهندي والهادئ، تلك البقعة من الجغرافية التي تبدو في نظر كثر في عالمنا العربي، بعيدةً عن دائرة الاهتمام، يدرك حجم التحوّلات المتسارعة والخطيرة التي تشهدها المنطقة. وبعدما كانت الأخبار الآتية منها تتردّد بشكل متباعد، فإنها تفرض نفسها منذ أشهر يومياً، ما ينبئ بأن لحظة الصدام فيها قد لا تكون بعيدة جداً. ليست المسألة مقتصرة على المواجهات التي تتّخذ طابعاً متسارعاً بين الصين والفيليبين في بحر الصين الجنوبي المتنازع عليه بين البلدين إلى جانب دول أخرى في المنطقة، فتلك قضية قديمة تتّخذ فيها المناكفات والصدامات عدة أنماط.
المسألة على تماسّ مباشر مع المواجهة بين الصين وأميركا من أجل الهيمنة على المحيطين الهندي والهادئ. في جعبة الطرفين، كما أظهرت عدّة أحداث، حفنة أوراق لاستخدامها عند الضرورة. ولم توفر الإدارة الأميركية الحالية، كما سابقاتها، ما في جعبتها من خيارات لتعزيز موقعها بمواجهة النفوذ الصيني الراسخ. وهي إن بدت أنها حققت نجاحات عدّة، فإنه من دون تحقيق استراتيجيتها المعلنة، والصادرة في 2022، هناك هوّة واسعة يحتاج ردمها إلى وقتٍ لا يبدو أنها تملكه، ليس فقط بسبب قرب الانتخابات الرئاسية في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل وما قد تحمله معها من عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض ومن جمودٍ قد يمتد فترة سيصبّ حتماً في مصلحة الصين، بل أيضاً لأن بكين لا تكتفي بدور المتفرّج على ما تحيكه واشنطن، بل تتصدّى لها باستمرار، لأنها غير مستعدّة لخسارة ما بنته نحو عقدين من نفوذ سياسي واقتصادي عبر شراكاتٍ كانت كفيلة بأن تضمن لها مصالحها طوال الفترة الماضية.
نشرت الولايات المتحدة في فبراير/ شباط 2022 استراتيجيتها لمنطقة المحيط الهندي والمحيط الهادئ، محددة خمسة أهداف لرؤيتها، أولها ضمان أن تكون المنطقة "حرّة ومفتوحة" على قاعدة أن "تتمكّن الحكومات من اتخاذ خياراتها الخاصة، وأن تخضع المجالات المشتركة لحكم قانوني". وثانيها أن تكون "منطقة مترابطة ومتواصلة"، على أن يتم تحقيق ذلك عبر ما سمّته يومها بـ"تعزيز تحالفاتنا التعاقدية الإقليمية الخمسة مع أستراليا واليابان وجمهورية كوريا وكذلك الفيليبين وتايلاند"، وتعزيز العلاقات مع الشركاء الإقليميين، بما في ذلك الهند وإندونيسيا وماليزيا وتايوان وفيتنام وجزر المحيط الهادئ، فضلاً عن توسيع الوجود الدبلوماسي للولايات المتحدة في جنوب شرق آسيا وجزر المحيط الهادئ. أما ثالث الأهداف فحدّدته بجعل المنطقة "مزدهرة"، فيما رابعها، والذي يمكن القول إنه الأهم، مرتبطٌ بضمان أن تكون المنطقة "آمنة"، من خلال توسيع الوجود الدفاعي الأميركي في المنطقة تحت عنوان "دعم السلام الإقليمي والأمن والاستقرار والازدهار"، "وكذلك تعزيز قدراتنا للدفاع عن مصالحنا وردع العدوان على الأراضي الأميركية وضد حلفائنا وشركائنا". وأخيراً، كان الحديث عن منطقة قابلة للتكيّف مع التحدّيات العابرة للحدود. وأعقبت ذلك سلسلة زياراتٍ تكاد لا تتوقّف للمسؤولين الأميركيين إلى المنطقة، فضلاً عن توقيع ما أمكن من اتفاقات وعقد قمم مع قادة المنطقة.
ولم تُخف الولايات المتحدة لحظةً أن محرّكها الأساس التصدّي للنفوذ الصيني مع كل ما يتطلّبه ذلك من إغراءات و/أو تهديدات لدول في المنطقة من أجل الابتعاد التدريجي عن بكين. لكن اللحظة التي يمكن أن يخضع فيها مدى استعدادها للذهاب في تطبيق الاتفاقات الأمنية التي تتطلب تدخّلاً مباشراً لحماية شركائها، على غرار الفيليبين، قد تحين، وإنْ كانت غير متوقّعة حالياً، ليظهر عندها أيّ الطرق ستختارها أميركا في مواجهة الصين، وما إذا كانت راغبة في الانتقال إلى طوْر جديد من الصدام حفاظاً على مصالحها واستراتيجيّتها.