ترامب وثلاثي إيران- روسيا- الصين
ما أن اتّضحت نتائج الانتخابات الرئاسية الأميركية، حتى راحت دول عديدة تشدّ الأحزمة استعدادا للتعايش مع أربع سنوات صعبة من إدارة ترامب الذي يحيط نفسه بمجموعة من أكثر المساعدين "صقورية" في مجتمع واشنطن السياسي، ابتداء بنائب الرئيس جي دي فانس، مرورا بمرشحيه للخارجية (ماركو روبيو) ومستشاره للأمن القومي (مايك والتز) وسفيرته الى الأمم المتحدة (إليز ستيفانك). ورغم أن العالم كله في حال استنفار تجاه ما يُضمره ترامب، الذي يعود بفائض قوة ناجم، خلاف ولايته الأولى، عن فوزه بالتصويت الشعبي، وسيطرة حزبه على كل فروع السلطة في واشنطن، فإن الدول الأكثر تأثّرا بسياساته ستكون بالترتيب إيران وروسيا والصين. ويرجّح أن تتبوأ إيران المرتبة الأولى بين أكثر الدول تضرّرا من سياسات ترامب، نتيجة موقفه، ومساعديه، منها، وباعتبارها أيضا الحلقة الأضعف بين خصوم واشنطن على الساحة الدولية، التي تضم أيضا كوريا الشمالية. "وما زاد الطين بلّة" بالنسبة لطهران أخيراً اتهامها رسميا بالوقوف وراء محاولة اغتيال ترامب خلال حملته الانتخابية.
لكل هذه الأسباب، سوف يعود ترامب على الأرجح إلى ممارسة سياسة "الضغوط القصوى" على إيران، لإجبارها على الخضوع، سواء فيما يتعلق ببرنامجها النووي أو سياساتها الإقليمية، من دون أن يتطلب ذلك بالضرورة محاولات لتغيير النظام. ويستشعر ترامب أن لديه فرصة أكبر لتحقيق أهدافه، مقارنة بولايته الأولى، فإيران أضعف كثيراً مما كانت عليه سابقاً نتيجة المواجهة الدائرة على امتداد المنطقة منذ أكثر من عام، ووصلت إلى قلب طهران الشهر الفائت مع تدمير إسرائيل دفاعاتها الجوية وأكثر منشآت إنتاج الصواريخ الباليستية والطائرات المسيّرة. على أن ترامب لن يكتفي بفرض كل أشكال العقوبات على طهران، بما في ذلك تتبّع الأسطول الشبح الذي تستخدمه لتهريب نفطها، في مسعى إلى خنقها ماليا، بل سيسعى، على الأرجح، إلى عزل إيران أيضا عن حلفائها الدوليين، لا سيما روسيا، والصين، وكوريا الشمالية. وتبدو إمكانية تحقيق ذلك مع روسيا أكبر. إذ يُبدي ترامب، في مقابل تقليص روسيا شراكتها الاستراتيجية مع إيران، مرونة في التوصل إلى تسوية في أوكرانيا، تراعي مصالح روسيا. ويبدو ترامب، فوق ذلك، مستعدّاً لإعطاء روسيا دورا في أي تسوية سياسية يجري ترتيبها في لبنان لمنع إعادة تسليح حزب الله، عبر ضمان موسكو لعدم تسهيل النظام السوري عبور الأسلحة عبر أراضيه، ما يعني بدوره تقديم إغراءات وممارسة ضغوط على دمشق للتعاون في هذا المجال. لن تقتصر مكاسب روسيا من أي تفاهمات محتملة مع ترامب لتحجيم دور إيران وتخفيض علاقاتها بها على انتزاعها اعترافا أميركيًا بدورها في تسويات الشرق الأوسط، بل تتجاوزه إلى الاستفادة من انخفاض صادرات النفط الإيراني إلى السوق الصينية، بفعل الضغوط الأميركية، حيث تتنافس روسيا مع إيران على مقدار الخفض الذي تقدمه كل منها لإقناع الصين بشراء نفطها الخاضع للعقوبات الغربية. وتعني ترجمة هذا الكلام العودة إلى المقاربة التقليدية لترامب، والقائمة على تفضيل التعاون مع روسيا وعزل إيران، في مقابل مقاربة بايدن التي كانت تقوم على تفضيل التعاون مع إيران وعزل روسيا.
أما الصين، وهي الخصم الإستراتيجي الأكبر للولايات المتحدة على الساحة الدولية، فسوف تستمر في مواجهة تحدّيات كبرى في علاقتها بواشنطن في عهد ترامب، كما كانت عليه الحال في عهد بايدن، لوجود إجماع بين نخب واشنطن على احتوائها. صحيحٌ أن الصين تستعد لفرض رسوم جمركية أكبر وضغوط أشد من الادارة الجمهورية لتقليص العجز في الميزان التجاري مع أميركا، لكنها في المقابل تبدي ارتياحا أكبر لتوجّهات ترامب غير الحربية، فيما لو انزلقت الأمور نحو مواجهة في تايوان، بعكس ما كانت تلمّح إليه إدارة بايدن. لكن كل هذه الاستنتاجات تتطلب حذراً في تبنّيها، ذلك أن ترامب يميل إلى تضخيم قدراته على الفعل دوليّاً (مزاعم قدرته على وقف حرب أوكرانيا في غضون 24 ساعة، مثلا)، وهناك فوق ذلك ما تعلمناه خلال إدارة بايدن أن الحروب لا تندلع فقط من خلال السعي إليها، بل من خلال محاولة تجنّبها أيضاً، على ما دلت حرب أوكرانيا التي أشعلها الهروب الأميركي من أفغانستان.