تعاظم دور الدين ومأزق العلمانية الغربية

01 ديسمبر 2024
+ الخط -

استمع إلى المقال:

خلافاً لما توقعه فلاسفة عصر النهضة في أوروبا الذين بشّروا بأن الأديان تتّجه نحو الانقراض أو الانزواء، ما يحدث حالياً يؤكد خلاف ذلك، حيث أصبح الدين يحتلّ مكانة بارزة في السياسات الدولية، فبعد الضربات القوية التي تلقّتها الأديان عامة، والمسيحية خصوصاً، على أيدي العلمانيين، استرجع المتديّنون نفوذهم تدريجياً بعد إقدامهم على بعض المراجعات لتصحيح مساراتهم واستراتجياتهم. واللافت أن بعض التيارات العلمانية هي التي ساعدت كثيراً على تمكين خصومهم المتدينين من الصعود مجدّداً فوق "الرّكح" ثقافياً واجتماعياً وخاصة سياسياً.

عمدت النخبة الصهيونية إلى توظيف العقيدة اليهودية في محاولةٍ لاستقطاب يهود العالم، وتحويلهم إلى أمّة وبناء دولة إسرائيل فوق فلسطين. كانت هذه المناورة السياسية والعقائدية الثقب الذي دخلت منه الصهيونية الدينية التي أخذت تدريجيّاً تسحب البساط من الأحزاب العلمانية الإسرائيلية، حتى سيطرت على مفاصل الدولة العبرية، مقابل تراجع الأحزاب العلمانية التي فقدت القدرة على الصمود. وقد ساعدت حرب غزّة على تمكين أقصى اليمين الديني المتطرّف من إعلان الحرب الدينية في المنطقة.

إذا انتقلنا إلى الولايات المتحدة، وبحثنا عن تفسير لنجاح ترامب في الانتخابات الرئاسية أخيراً، رغم ملفه الأخلاقي والقضائي، واعتداء أنصار له على مبنى الكونغرس، وتهديداته المتكرّرة بعدم الاعتراف بالنتائج إذا لم تكن في صالحه. يجيب موقع كاونتربانتش الأميركي من خلال تقرير أعده بوب توبر على ذلك، ورد فيه أن الأمر يعود إلى "الدور الذي يقوم به الدين في السياسة الحديثة". ويشير بالخصوص إلى الانقسام السياسي في الولايات المتحدة باعتباره "صراعاً بين الفكر الوضعي والمعتقد المسيحي واسع الانتشار". ويستند الباحث إلى كتاب ويليام بيرنشتاين "أوهام الحشود"، وفيه "لا يمكن فهم الاستقطاب الحالي في المجتمع الأميركي من دون معرفة عملية بسردية (نهاية العالم) التي تتنبأ بالمجيء الثاني للمسيح، خاصة أن 39% من البالغين الأميركيين يعتقدون أن البشرية تعيش في "نهاية العالم"، حسب مسح أجراه مركز بيو للأبحاث". وبناء عليه، اعتبر المؤلف أن ما حصل قبل انتخاب ترامب "حالة من الهستيريا الجماعية، إذ لا توجد طريقة لمعرفة مدى تأثير نظرية التدبير الإلهي على هذه الانتخابات". ويضيف أن الأصوليين الأميركيين يعتقدون أن ما يجري في العالم "معركة بين الخير والشر، بين الله والشيطان، بين برّ الإيمان المسيحي وشرور الليبرالية العقلانية". ويضيف نقطة في غاية من الأهمية، حيث أكد أنه "لم تعد القيم الأميركية الأساسية المتمثلة في الحرية والمساواة والديمقراطية تشكل أهمية بالنسبة لهوية الحزب الجمهوري ورسالته". وهو ما حوّله إلى "حزب مسيحي ثيوقراطي متنكّر في هيئة الحزب الجمهوري".

من كان يتصوّر أن صراعاً انتخابياً في أقوى بلد يحمل في طياته انقلاباً عميقاً في الثقافة السياسية والدينية. وهو ما يفسّر ما ذهبت إليه دراساتٌ عديدة اعتبرت أن السياسة الخارجية الأميركية تجاه إسرائيل كانت دائما "مرتبطة بعملية تصوير إسرائيل باعتبارها الدولة التي بناها الإنجيل"، وهو ما تروّجه "المسيحية الصهيونية" التي من بين معتقداتها المنتشرة بشكل واسع في أوساط الشعب الأميركي التسليم بأن "معركة هرمجدون سوف تحدُث وتنتصر فيها إسرائيل، لكن بعد أن تفقد كثيراً من الضحايا". وتعني كلمة هرمجدون بالعبرية جبل وادي في فلسطين، الذي ستدور فيه معركة يعتقد أغلب المسيحيين أنها ستكون حتمية، وستكون مقدّمة لنهاية العالم. وستشهد هذه المعركة عودة المسيح الذي سيحكُم الجميع، والتي سينتصر فيها المسيحيون على المسلمين. لهذا يعتقد عموم الأميركيين أن دعمهم إسرائيل واجب ديني وفريضة إلهية.

هكذا تحوّلت الأساطير الدينية إلى أداة أيديولوجية من أجل حسم صراعاتٍ تعمل قوى عنصرية من خلالها للسيطرة على شعب حقوقه التاريخية ثابتة ومؤكدة، فالأديان كانت ولا تزال ضحية المستبدين والمستغلين ورجال الدين. وهنا مأزق العلمانية الغربية وزيفها.