تقرير خاشقجي .. تداعيات محتملة عربياً
على الرغم من أن "تقرير خاشقجي" الذي أصدرته المخابرات الأميركية يخص الجريمة المروعة التي راح ضحيتها الصحافي السعودي جمال خاشقجي في مقر قنصلية بلاده في إسطنبول، إلا أنه يثير تساؤلاتٍ بشأن ما ستكون عليه السياسة الخارجية إزاء الوضع الحقوقي في المنطقة العربية، وهو وضعٌ يشهد تردّيا واضحا، بعد أن انحسر مد الثورات العربية، وأعادت الأنظمة إحكام قبضتها على الفضاء العمومي.
مؤكّد أن الحقوق والحريات لم تكن يوما مرجعيةً قيميةً وأخلاقية بالنسبة للسياسة الخارجية الأميركية. يشهد على ذلك دعم الولايات المتحدة الأنظمة الاستبدادية الحليفة لها، وتغاضيها عما ترتكبه هذه الأنظمة من انتهاكات. وشكّلت المنطقة العربية، عقودا طويلة، أحد مختبرات هذه السياسة البراغماتية وأكثرها دلالة، سواء تعلق الأمر بوقوف واشنطن إلى جانب الأنظمة التي تدور في فلكها وتجاهلِ تجاوزاتها الحقوقية، أو دعمها غير المشروط الكيان الصهيوني في ما ارتكبه، ولا يزال، من جرائم بحق الشعب الفلسطيني.
ولكن غياب الحقوق والحريات، بدلالاتها القيمية والأخلاقية، عن هذه السياسة، لا يعني عدم استدعائها وتوظيفها في منعرجاتٍ تاريخيةٍ حاسمة. وتُقدم الحرب الباردة أبلغ مثال على ذلك، إذ سيؤشّر وصول جيمي كارتر إلى البيت الأبيض (1976) إلى تحوّل نوعي في مقاربة الولايات المتحدة قضايا حقوق الإنسان، من خلال تصدُّرها سلم أولوياتها في علاقاتها الخارجية، بهدف إحراج الاتحاد السوفييتي وإرباك تحالفاته الدولية. ومع نهاية الثمانينيات، ستتحوّل هذه المقاربة إلى منظومة متكاملة، بعد أن انتهى التاريخ (بتعبير فرنسيس فوكوياما)، وغدت الديمقراطية وحقوق الإنسان عنوانين رئيسين للنظام العالمي الجديد. وسينعكس هذا التحول في التقرير السنوي الذي تصدره الخارجية الأميركية عن حقوق الإنسان في العالم، حيث صارت أكثر جرأةً في انتقاد سياسات الأنظمة الحليفة لها. وقد ساعدت الضغوط الأميركية، إلى جانب الديناميات التي أحدثتها المنظمات غير الحكومية وحركات المعارضة، على تشكيل بيئةٍ دوليةٍ جديدة، فتم إطلاق آلاف المعتقلين السياسيين، وسقطت ديكتاتوريات كثيرة مفسحةً المجال أمام نخب المعارضة، وحدثت انفراجات سياسية وتعديلات دستورية بالجملة. حدث هذا في أوروبا الشرقية وأفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية فيما يشبه زلزالا كونيا. لكن هذا الوضع سرعان ما سيتغير بشكل دراماتيكي بعد أحداث "11 سبتمبر" في 2001، والتي أغلقت القوس الذي فُتح في نهاية الثمانينيات، مانحةً الأنظمة الاستبدادية هامشا جديدا لاستعادة المبادرة وإحكام قبضتها على المجتمعات التي تحكمها.
بالطبع، لا مجال للمقارنة بين تقرير خاشقجي والتقارير السنوية التي أصدرتها الخارجية الأميركية بالتوازي مع تفكّك المعسكر الشرقي، لاختلاف السياقات والفاعلين وطبيعة التوازنات الدولية. بيد أن ذلك لا يمنع اعتبار التقرير إشارة إلى الاستبداد العربي الجديد الذي رأى في صمت الإدارة الأميركية، على انتهاكاته في السنوات الأخيرة، ''شيكا على بياض''، يسمح له بإحكام هيمنته على السلطة، وقمع الاحتجاجات المناوئة لسياساته، وانتهاك الحقوق والحريات. وقد يفتح ذلك المجال أمام تفاهماتٍ جديدةٍ بشأن التردّي الذي تشهده هذه الحقوق والحريات في أكثر من بلد عربي. ومن المرجّح أن اندلاع الموجة الثانية من الربيع العربي في الجزائر والسودان ولبنان والعراق، واستمرار تردّي الوضع المعيشي والاجتماعي، وغياب الإرادة السياسية للإصلاح، وتغوُّل الأجهزة الأمنية فيما يشبه الانتقام من الشعوب على تجرّؤها بالخروج إلى الشارع في 2011، ذلك كله تُدركه الإدارة الأميركية الجديدة، وقد يصبح ضمن حساباتها في المرحلة المقبلة بدرجةٍ أو بأخرى، بِحكم أن إصدار تقرير يدين ولي العهد السعودي يمثل منعطفا لا ينبغي التقليل من أهميته، إذا ما أخذنا بالاعتبار أن السعودية حليف استراتيجي للولايات المتحدة في المنطقة.
صدور تقرير خاشقجي، على أهميته، لن يحدث تغييرا راديكاليا في السياسة الأميركية في المنطقة. لكنه، على الأقل، سيقطع مع إرث الرئيس السابق، دونالد ترامب، وسيجعل النظام الرسمي العربي أكثر حذرا في تعاطيه مع قضايا حقوق الإنسان، هذا فضلا عن أنه قد يتيح هامشا للحركة أمام الناشطين والمدافعين عن هذه الحقوق في المنطقة.