تهجير سكّان غزّة طوعاً
لا يزال تهجير سكان قطاع غزّة يتصدر أولويات دولة الاحتلال بعد انصرام أكثر من أربعة أشهر على بدء العدوان الغاشم على القطاع. وعلى الرغم من الانتقادات التي جوبهت بها تصريحات وزيري الأمن القومي إيتمار بن غفير والمالية بتسلئيل سموتريتش داخل إسرائيل، إلا أن واقع الحال يفيد بأن تهجير الفلسطينيين بات أولوية إسرائيلية غير معلنة، في ظل الارتجاج الذي خلفه هجوم 7 أكتوبر/ تشرين الأول داخل الدولة والمجتمع الإسرائيليَّيْن.
صحيح أن قرار محكمة العدل الدولية أربك، نسبيا، الحسابات الإسرائيلية وأحرج حلفاءها في الغرب، غير أن ذلك لا ينفي أن هناك ''سياسة الأمر الواقع'' التي تسعى إسرائيل إلى فرضها في غزّة، بما يضمن تنزيل مخططها السياسي والأمني على الأرض بعد أن تضع الحرب أوزارها. ويتّسق ذلك مع الطبيعة التوسّعية للمشروع الصهيوني، إذ لم تخْلُ برامج الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة من مخطّطات استهدفت، ولا تزال، تهجير الفلسطينيين واجتثاث وجودهم الوطني والأهلي، موظفة في ذلك وسائل تباينت من مرحلة إلى أخرى. ومع صعود اليمين الصهيوني المتطرف، ونجاحه في التغلغل داخل مؤسّسات الدولة تحوَّل تهجير الفلسطينيين إلى مسألة حياة أو موت، خصوصاً بالنسبة لحكومة نتنياهو الحالية التي تضع تهجير سكّان قطاع غزّة ضمن الأهداف غير المعلنة لعدوانها.
خلّف العدوان الإسرائيلي دماراً هائلاً وغير مسبوق، بعدما دمّر القصف البيوتَ والمدارس والجامعات ودور العبادة والمستشفيات والمنشآت العامة والمساحات الزراعية، ما يعني تفكيك البنية التحتية بالكامل، بحيث يصبح تهجيرُ سكان القطاع أمرا واقعا لا محيد عنه. ويساعد نزوح مئات الآلاف داخل القطاع هرباً من الموت والدمار الاحتلال على تنفيذ مخطّطه بتهجيرهم نحو مصر ودول أخرى، فتصبح عودتهم إلى حيث كانوا يقيمون شبه مستحيلة أمام تعثّر وصول المساعدات الإنسانية الكافية. وإذا كانت مصر لا تزال ترفض تهجير سكان غزّة إلى أراضيها رغم الضغوط الأميركية والإسرائيلية، فإنّ ضراوة القصف الإسرائيلي وحجم الدمار الهائل في غزّة وانحياز الدول الغربية الكبرى لإسرائيل وإخفاق الرأي العام العربي والغربي في تحويل المظاهرات المؤيدة للفلسطينيين إلى ضغط سياسي ملموس على صناع القرار في المنطقة والعالم، ذلك كله يُبقي هامش الحركة مفتوحا أمام دولة الاحتلال للقضاء على مختلف مقوّمات الحياة في قطاع غزّة، من دون إغفال أن مئات من السكان نجحوا في الخروج من القطاع باتجاه دول عربية وغربية، وهو أمر يَغيب، أو بالأحرى يُغيَّبُ، عمّا تسوقه وسائل الإعلام الدولية ضمن متابعاتها مجريات الحرب. وجاءت واقعةُ وقف دول غربية تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) لتعزّز مخطّط التهجير، باعتباره عقاباً جماعياً يستهدف الحاضنة الشعبية والاجتماعية والأهلية للمقاومة الفلسطينية، ذلك أن تجفيف مصادر تمويل الوكالة سيؤدّي حتما إلى انهيار القطاعات الاجتماعية والخدماتية الحيوية التي تشكل عصب الحياة في قطاع غزّة. وحتى في حال توقف العدوان الإسرائيلي في المنظور القريب، وفشل إسرائيل في تنفيذ مخططها لليوم التالي للحرب، فإن إعمار غزّة سيستغرق سنوات، بالنظر إلى ما سيخلفه العدوان من دمار، ناهيك عن الأثمان السياسية التي ستكون ضمن خطط الإعمار وتفاهماته الإقليمية والدولية.
لا يمثل تدمير مقوّمات الحياة في غزّة سلاحا عسكريا وسياسيا فقط، بقدر ما يمثل أيضا حلقة جديدة في المشروع الصهيوني الذي يستهدف اقتلاع الفلسطينيين من أراضيهم، انسجاما مع سياسات الاستيطان والتهويد والأسرلة. بيد أن نجاح إسرائيل في المضي بعيدا بمخطّط التهجير يبقى رهين ما ستؤول إليه المعارك الضارية في غزة بين فصائل المقاومة الفلسطينية وقوات الاحتلال، من دون أن ننسى أن هناك معركة موازية لا تقل ضراوة، يخوضها الوعيُ الوطني الفلسطيني، من خلال المقاومة التي يبديها الفلسطينيون في مسعى إلى تجنّب تكرار ما حدث في النكبة (1948)، والنكسة (1967)، حين نجح الاحتلال في تهجير مئات الآلاف من أجدادهم وآبائهم بتواطؤ من حلفائه في الغرب.