توتّرُ الهوية في كرة القدم
في الوسع القول إن صورة اللاعب السويسري، كاميروني الأصل، بريل إيمْبولو، وهو يقف رافعا يديه إلى الأعلى بعد تسجيله الهدف الوحيد الذي فاز به المنتخب السويسري على نظيره الكاميروني، ضمن منافسات المجموعة السابعة من كأس العالم التي تستضيفها قطر، باتت جزءا من التاريخ الموازي لكرة القدم. رفض إيمبولو الاحتفال بهدفه، وبدت على وجهه علامات الحرج والحزن، ما يمكن اعتباره اعتذارا من وطنه الأم واحتراما لجذوره الكاميرونية. وأيضا إشارةً، ربما، إلى ما يعيشه من توتّر هوياتي بين سويسريّته المكتسبة وكاميرونيته الكامنة في جذوره. صورة ضاجّة بالدلالة، تختزل هذا التوتر الذي يعيشه لاعبون كثيرون، من أصول أفريقية وعربية، يتوزّعون على مختلف البطولات الأوروبية، اختاروا تمثيل البلدان التي يقيمون فيها ويحملون جنسياتها بدل التي ينحدرون منها.
تعود ظاهرة حمل لاعبي كرة القدم قمصان بلدان إقامتهم، عوض بلدانهم الأصلية، إلى عقود، خصوصا بالنسبة لمنتخباتٍ بعينها، وفي مقدمتها المنتخب الفرنسي، الذي لم يخلُ تاريخه من لاعبين، من أصول أفريقية وعربية، شكّلوا دعاماته الرئيسة، منهم، مثالا لا حصرا، لاعب خط الوسط في الثمانينيات، جون تيغانا، المولود في باماكو (مالي)، وزين الدين زيدان، جزائري الأصل، الذي قاد المنتخب الفرنسي إلى الفوز بكأس العالم (1998)، وأصبح إحدى أيقونات كرة القدم الفرنسية والعالمية. وعلى الرغم من أن هذه الظاهرة ليست حديثة في أوروبا، إلا أنها أصبحت تأخذ أبعادا جديدة، لأسباب ثقافية وسياسية مركّبة يطول الخوض فيها.
بالطبع، هناك وجه آخر لهذه الظاهرة، يتمثل في اختيار لاعبين آخرين اللعب بقمصان بلدانهم الأصلية، دلالة على تشبثهم بجذورهم ورفضهم، أو على الأقل عدم تقبلهم، اللعب بقمصانِ بلدان يعيشون تحت سمائها، لكنهم لا يشعرون بالانتماء الثقافي والوجداني لها. وربما تكون حالة اللاعبين الشقيقين، المولوديْن في إسبانيا لأسرة غانية مهاجرة، إنْياكي ويليامز ونيكو ويليامز، الأكثر تعبيرا عن هذا التوتر الهوياتي في مونديال قطر. وهو التوتر الذي أحدث، على ما أشيع، انقساما داخل أسرة الشقيقين؛ ففي حين اختار الشقيق الأكبر، إنْياكي، اللعب للمنتخب الغاني، اختار نيكو اللعب للمنتخب الإسباني. وسواء صحّ ما تردّد في الصحافة الإسبانية أن إنياكي لم يختر اللعب بقميص وطنه الأم إلا بعد أن يئس من مناداة لويس إنريكي، مدرّب المنتخب الإسباني، عليه، أو ما قيل بشأن ضغوط ناعمة مارسها عليه جدّه، فإن ذلك لا يغير من واقع الأمر شيئا.
يبدو الأمر مختلفا في فرنسا، فقد بدأ النقاش في جدل الهوية وكرة القدم مطلع التسعينيات. وانعطف نحو مساراتٍ أخرى بعد فوز المنتخب الفرنسي بكأس العالم (1998). وإذا كان قطاعٌ من الفرنسيين رأى في زين الدين زيدان بطلا وطنيا بعد قيادته المنتخب لإنجازه المعلوم، فإن اليمين المتطرّف لم يتوقف عن انتقاد تركيبة ذلك المنتخب، بسبب ضمّها لاعبين من أصول غير فرنسية. ولم ينظر إلى هؤلاء إلا كَدخلاء على المنتخب، متناسيا أن الفضل الأكبر يعود إليهم في فوز فرنسا بأول كأس عالم في تاريخها.
يكاد توتر الهوية في كرة القدم لا ينفصل عن قضايا تبدأ بالفساد والاستبداد المستشرييْن في بلدان الجنوب، وإخفاق سياسات التنمية، وتزايد معدلات الهجرة، سيما غير النظامية، نحو دول الاتحاد الأوروبي، وتنتهي بإشكالات الهوية والانتماء والاندماج التي تواجه أبناء المهاجرين وأحفادهم في أوطانهم الجديدة.
في الختام، هناك، على ما أوردته تقارير إعلامية، أكثر من 130 لاعبا، في مونديال قطر، اختاروا اللعب بقمصان بلدان غير التي ينحدرون منها، فيما يبدو واجهة أخرى لما أفرزته العولمة الكروية المتصاعدة. ولعل من شأن ذلك أن يفتح آفاقا جديدة أمام التخصّصات ذات الصلة بقضايا الهوية والتعدّدية والتنوع الثقافي وتبدّياتها في مجال كرة القدم.