تونس .. قبل أن يطفح الكيل
استحق التونسيون في العقد الأخير احترام العالم، لأنهم قاموا بثورةٍ ناجحةٍ على نظام ديكتاتوري، وأجبروه، خلال أقل من شهر، على التنازل عن الحكم، ومغادرة الرئيس زين العابدين بن علي إلى السعودية في 14 يناير/ كانون الثاني 2011. وصلت الثورة إلى هدفها المباشر بخسائر قليلة، وبلغ عدد الذين سقطوا خلال المواجهات مع أجهزة القمع 174 شخصا حسب مجلس حقوق الإنسان التونسي، إلا أن الطريق، بعد ذلك، لم يكن بلا مصاعب أمام الأطراف التي تصدّرت المشهد الجديد، فسرعان ما دبّت الخلافات من حول مشروع المستقبل، والحصص في الحكم، ولكن كل الخلافات بقيت سلمية، ولم تصل إلى حد الاحتكام إلى السلاح، الذي كان صوته يلعلع في الجارة ليبيا وبلدان أخرى سارت على طريق النموذج التونسي مثل سورية. وتمكّنت النخب التونسية من تقليص التباينات، لتصل إلى حلول وسط وقواسم مشتركة، وبذلك حققت توافقا في الحكم بين أهم قوتين سياسيتين، حزب نداء تونس الذي أسسه الرئيس السابق، الباجي قايد السبسي، وهو من رجالات المدرسة البورقيبية، وحركة النهضة الإسلامية التي تمثل الاعتدال والانفتاح على بقية الأطراف. وأهم الإنجازات التي تحققت بجهود جميع الأطراف هو الدستور في عام 2014. وللأمانة، فإن هذا العمل الذي استغرق نحو عامين ونصف العام، كان برعاية الرئيس المنصف المرزوقي (2011 - 2014)، المثقف الذي عرف المنفى، وناضل في منظمات حقوق الإنسان والمجتمع المدني، وشهدت فترة حكمه تعزيز القوانين المؤسسة للعهد الجديد، القائم على الإصلاحات واحترام حقوق المواطنة والمواطن.
ذلك كله جعل من تونس محل تقدير وباعثة على الأمل، لأن قواها السياسية والنقابية اجتازت الاختبار الديمقراطي بنجاح، وقدّمت نموذجا لبلدان العالم العربي التي تتطلع إلى القيام بإصلاحات ديمقراطية في مرحلةٍ انتقاليةٍ صعبة، بعد أن واجه الربيع العربي قمعا بالنار في كل من سورية وليبيا واليمن، وانقلابا على العملية الديمقراطية في مصر.
ويستحق التونسيون اليوم شهادة تقدير في التحمّل والصبر، فهم ينتظرون منذ قرابة 45 يوما أن يحنّ عليهم الرئيس قيس سعيّد، ويكشف عن خريطة الطريق التي يريد أن يسير عليها، بعد أن أقدم في الخامس والعشرين من يوليو/ تموز الماضي على حل الحكومة وجمّد البرلمان، وأوكل لنفسه كل السلطات، وترك الشارع يخمّن الخطوة الثانية التي سيقدم عليها. ويروّج أنصاره أن الوضع الراهن ليس أقل سوءا من تلك الأيام الخوالي، التي وصلت فيها الفوضى السياسية إلى مشاحناتٍ غير مسبوقة تحت قبة البرلمان، وهذا ما منح الرئيس سعيّد الشجاعة على قلب الطاولة. ومن ناحية أخرى، تتطلب إعادة الدينامية إلى الوضع وقتا، وهذا كلامٌ ليس محل خلاف، ولكن وضع خريطة طريق ليس مستحيلا، مهما بلغ الموقف صعوبة، في وقتٍ تبرز إشارات إلى أن التلكؤ مردّه حسابات خاصة بالرئيس، وهي تقوم على تثبيت موقعه شخصا يمسك بكل مفاتيح القرار في البلد، ما يعني أنه ذاهب نحو الوراء على نحوٍ يلغي كل الإنجازات التي حققتها الثورة التونسية.
إزاء ذلك، يبدو سعيّد جالسا في برجٍ عاجي، بينما يمر الوقت بلا حساب، وتسير الدولة في الحدود الدنيا. وتجري الأحداث كما لو أنها تدور في إطارٍ من الواقعية السحرية، فمن حين إلى آخر تبث الرئاسة خبرا مصوّرا عن لقاء يجمع الرئيس مع هيئات أو شخصيات، يلقي فيهم خطابا بالعربية الفصحى المقعرة. وعلى الرغم من أن الشارع التونسي لا يفهم هذه اللغة، يصر سعيّد ويواصل الحديث بها، وهذا دليل إغترابٍ عن واقع محلي له خصوصيته، والتي تبدأ من لهجة عربية محلية ذات وقع جميل، قريبة من الفصحى بلا تكلّف، فهي ابنة الزيتونة ولسان كتاب كبار مثل أبي القاسم الشابي، محمود المسعدي، وهشام جعيط.