تونس وإضرابات الجوع
دخل القيادي في جبهة الخلاص الوطني جوهر بن مبارك في إضراب جوع، والتحق به بعد ساعات رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي في إضراب لثلاثة أيام مساندة له. والاثنان في السجن منذ أشهر بتهمٍ لا يمكن حصرها، لم يحسم في بعضها القضاء رغم طول مدة الإيقاف والتحفّظات العديدة على استقلاله.
قد تكون مسارات الشخصيتين مختلفة، فالأول كهل عرفته الساحة الجامعية في أوائل التسعينيات مناضلا يساريا صلبا، لينتقل بعد الثورة إلى معارض شرس لحركة النهضة، ويؤسّس "شبكة دستورنا" لاحقا، ثم تضمّه بعد انتخابات 2019 حكومة إلياس الفخفاخ، غير أنه يجد نفسه مرّة أخرى معارضا شرسا في الصفوف الأولى لمناهضة انقلاب الرئيس قيس سعيّد على المؤسّسات، وأحد أبرز وجوهها الخطابة والعمق الفكري، وهو الأستاذ الجامعي المختصّ في القانون الدستوري، والقدرة على التحرّك، وربط علاقات مع مختلف أطراف المعارضة. وقد رشّحه هذا كله لأن يحتلّ تلك المكانة.
الثاني شيخٌ مسنٌّ طبع التاريخ السياسي المعاصر لتونس، وهو الذي أسّس حركة النهضة في السبعينيات، وعرف المحاكمات العديدة خلال حكمي بورقيبة وبن علي. أعتقد، وربما كان ذلك خطأه القاتل، أن الثورة حرّرت الجميع من الخوف والسجن، ولم يتصوّر مطلقا أن يعود إلى السجن، فقد تلتهم الثورة أبناءها في غفلة من التاريخ السعيد.
لإضرابات الجوع في التاريخ السياسي للبشرية جذور عميقة، قد تعود بها إلى الحضارات القديمة التي سادت في الهند والجزر البريطانية. ولذلك سيمدّنا التاريخ، حتى المعاصر منه، بقصصٍ مذهلة في خوض معارك "الأمعاء الخاوية"، من أجل انتزاع وضع حدٍّ لمظالم سافرة في البلدين، وتعترضنا صور غاندي وبوبي ساندز صاعدة إلى سلم الخلود كأنها تحاكي الآلهة.
تدلّ إضرابات الجوع على اختلال التوازن في المعركة التي يلتقي فيها الضحية مع جلاديه
للوهلة الأولى، تبدو إضرابات الجوع من أشكال الاحتجاج على وضعيةٍ يرى فيها الضحايا أنها لم تعد تُطاق، وأنها مظلمة مسلطة عليهم، لا قدرة على ردّها سوى بالمجازفة بالموت. لا شك أنها حصنٌ أخير يلجأ إليها المضرب، للدفاع عمّا يعتقد أنها فرصته الأخيرة لانتزاع حقه ووضع حد لمظلمته. يضع الإنسان ما تبقّى من جسده المنهك محلّ مخاطرةٍ لا تخلو من مغامرة من أجل أن ينال ما يعتقد أنه حقه، أو على الأقل إيجاد جسر تفاوض مع خصمه. تفيد تجارب إضرابات جوع عديدة بأن بعضهم قد ضحّى بحياته، وهو الذي أضرب من أجل حياة كريمة. خاض مناضلون كثر هذا الشكل الاحتجاجي القصووي، ومنهم من قضى نحبه، والقائمة طويلة.
تدلّ إضرابات الجوع على اختلال التوازن في المعركة التي يلتقي فيها الضحية مع جلاديه، ففي اللحظات التي يدرك فيها الضحية فقدان القدرة على المقاومة من أجل تغيير الوضع لفائدته، بما يتاح من احتجاج (مطالب سلمية، مفاوضات... إلخ) ينزع آنذاك إلى التفكير في إضراب الجوع، وهذا ما ينطبق على إضرابات الجوع التي انطلقت في تونس.
عرفت تونس، منذ استقلالها، ظاهرة إضرابات الجوع، غير أن أشهرها تلك التي جرت في عهد بن علي، قبيل القمّة العالمية لمجتمع المعلومات في العام 2005، حين قاد جمع من المناضلين السياسيين والحقوقيين إضراب جوع احتجاجا على أوضاع الحريات، وقد جمعت طيفا واسعا من المشارب السياسية المختلفة. كما شن نجيب الشابي، الذي يتزعّم حاليا جبهة الخلاص الوطني، إضرابات جوع متكرّرة، بصحبة رفيقته في الحزب الديمقراطي التقدمي المرحومة مية الجريبي، دفاعا عن حق الحزب في النشاط الحر. أما بعد الثورة فقد لفظ أنفاسه أحد الشباب السلفيين، الطالب محمد بختي، تحت وطأة إضراب جوع في السجن احتجاجا على معاملته وظروف اعتقاله... إحلال العدالة التي تبدو مستعصية، بل مستحيلة، كانت غاية هؤلاء جميعا. ويعتقدون أن لا علاقة للعقاب المسلط عليهم بالقضاء العادل والنزيه، بل هو أقرب إلى التشفّي.
رغم نبل الاحتجاج بالإضراب عن الطعام، تظلّ مخاطره محدقة، حتى ولو فكّ المناضلون إضرابهم، وستظلّ أجسادُهم هشّة عرضة للأمراض
لا تكترث السلطات الشمولية أحيانا بالنداء الأخير للمُضرب عن الطعام، وهو يخرج من بين أناته أنفاسه المتقطعة، لذا قد يمضي إلى حتفه. ومع ذلك، أحدث موت بوبي ساندز، معية عشرة من رفاقه، إثر إضرابهم المطول إبّان حكم مارغريت تاتشر، تحوّلا بارزا في شعبية تنظيم شين فين، وتحوّله إلى رقم صعب في تاريخ نضال الأيرلنديين من أجل الاعتراف بهم، وإيجاد حل سياسي لحربٍ موحشةٍ طال أمدها.
سبق لجبهة الإنقاذ في تونس أن أعلنت جملة من إضرابات الجوع في مقرّها (قبل أن تغلقه السلطة) احتجاجا على تردّي أوضاع الحرّيات، ولم تكن الاعتقالات قد بدأت بعد، غير أن ذلك لم يؤدّ إلى أي انفراج سياسي، بل ربما دفع السلطة إلى اتخاذ إجراءات مشدّدة على خلاف ما طمح إليه المضربون. كما أن ردود الأفعال الأولية لا زالت محتشمة، فقد غابت بيانات المساندة، بل عمدت السلطة، بعد سويعات من انطلاق الإضراب، إلى إحالة المحاميتين إسلام حمزة ودليلة مصدق (أخت المناضل المضرب جوهر بن مبارك) إلى التحقيق، إثر تصريحات ناقدة لتعاطي القضاء مع ملفّ القضية التي جرى إيقافه بسببها، أي "التآمر على أمن الدولة".
ربما تكون هذه التحرّكات من داخل السجن تجربيا لسواكن في مفتتح سنة سياسية حاسمة ستجرى فيها الانتخابات المحلية قريبا، كما يتوقع أن تشهد أيضا انتخابات رئاسية يشكّك بعضهم في عقدها خلال السنة السياسية الحالية. لذلك قد لا تنفصل عنه الإضرابات، رغم صبغتها الشخصية المحضة، عن نية توسيع جبهة المعارضة، وإيجاد مثيراتٍ تحفز المناضلين مجدّدا للدفاع عن آخر مربعات الحرية.
الأمر صعب، فرغم نبل هذا الاحتجاج، تظل مخاطره محدقة، حتى ولو فكّ المناضلون إضرابهم، وستظل أجسادهم هشّة عرضة للأمراض، وشاهدا على بشاعة الظلم.