ثورة الأخضر والأسود
فسّر بعض أفراد جمهور الكرة صورةً لم تكن فيها ملامح المُبتسم دوماً، ياسين بونو، فرِحة كما اعتادوا، بأنّه حزينٌ لتوقيعه عقداً مع فريق الهلال السعودي، بعدما كان اسمُه مطروحاً، حسب الصّحافة الإسبانية، لحراسة شِباك ريال مدريد. وضعوا الحزن المفترض على عاتق المال الذي انتصر بنظرهم على الكرة. ولم يفكّروا في احتمال أن يكون حارس المنتخب المغربي قد اختار المال بنفسِه لنفسه، وكأنّهم لن يفعلوا لو كانوا مكانه. ثم جاءت صورٌ أخرى كانت ابتسامة الحارس فيها أوسع من قبل، فانتهت حفلة العزاء تلك، في انتظار أخرى تواكب انتقال لاعبٍ شهير آخر إلى البطولة السعودية، أو عرسٍ كما يحدث مع تعثّر صفقة انتقال محمد صلاح.
ما أثاره شراء اللاعبين، وقبله الحفلات الموسيقية الغزيرة التي أحياها جلّ الفنانين العرب، في المدن السعودية بعد الانفتاح الهائل، وقبلها الأنشطة الثقافية واستقطاب أبرز الكتّاب العرب، من ردود فعل، جديرة بأن تدرّس في كليات علم النفس. من شملتهم النعمة فرحون بها، والآخرون حزانى يحتجّون على قوة المال.
يستفيد المجتمع المحلي من التطوّرات، فسيرتفع مستوى اللاعبين المحليين، وسيعمّق لقاء وجوه ثقافية وفنية، الوعي الثقافي. لكن ذلك لن يحدُث، ما لم يحرص المسؤولون على تشجيع مدارس الكرة، والحركة الثقافية المحلية. النجاح الحقيقي لأيّ دولة خليجية غنية هو الوجود على ساحات مختلفة غير ساحات الحروب والصراعات، وجدول أسعار النفط. وبدل خروج الأموال للاستثمار خارج البلاد في دورياتٍ عالميةٍ، تأتي خطوة الاستثمار الداخلي لتكون ضربة معلّم، والباقي سيتم بناؤه بالتدريج إذا كانت هناك إرادة حقيقية، فالجمهور المتعطّش للفرجة لا ينبت كالفطر، بلا رعايةٍ ولا ظروف ملائمة، بل يحتاج إلى بيئة متحفّزة وتنافسية ستنتجها المباريات.
صحيحٌ أن المال يُقصّر المسافات، لكنه لا يملأ الفراغات، فيمكن أن تكون الموجة الحالية، كما تقول منشورات التنمّر، مجرّد استثمار سطحي، ويمكن أن تكون تغييراً حقيقيّاً. لنأخذ نموذجي دبي والدوحة، الأولى بُنيت في عقدين لتصبح من أهم مدن العالم، من دون عوامل محفّزة غير المال. والثانية نظّمت كأس العالم بأفضل ما يمكن، في بنيةٍ تحتيةٍ أُعدّت في عشر سنوات فقط.
ربما جاء إدراك الخليج قدرة المال، والمكان الصحيح لصرفه متأخراً. وربما ليس هناك جمهور كافٍ لكل الأنشطة، لكن لكل دولة مواردها، وما تفتقده بحكم الطبيعة الجغرافية أو الديموغرافية قد تعوّضه بالثروة الخضراء (الدولار) التي تنتجها نظيرتها السوداء (النفط). لكن استمرار النظرة المتعالية لبعض مجتمعات المنطقة العربية سلوك خارج السياق التاريخي، فالأرض لا تدور حول الشمس فقط وحدها، بل تلفّ معها التاريخ والدول والقوى. وما يتهاون فيه اليوم مجتمع قد يأتي يوم يجد نفسه واقعاً في قاع سلّمه. لنأخذ مستوى التعليم في السعودية، في آخر إحصائية لأفضل ألف جامعة في العالم، دخلت عدة جامعات سعودية ضمن القائمة لتكون ضمن أفضل جامعات المنطقة، ثم جامعات قطر والإمارات وعُمان. أين جامعات المغرب وتونس وسورية ومصر (عدا الجامعة الأميركية فيها)، وبقية الدول التي كانت تظن نفسها عقل المنطقة العربية؟ تعرف هذه الدول حاليا أزمات خانقة في التعليم والصحة والاقتصاد، لأنها تاهت في صراعاتٍ سياسية حطّمت مكامن قوّتها، وهي البشر والتاريخ والجغرافيا التي وضعتها في مناطق استراتيجية أو ذات عراقة حضارية.
لعل تطوّر الوعي الجمعي التحدّي الحقيقي أمام دول الخليج، هو الذي يدفع إلى المساواة بين الأفراد، مواطنين ومقيمين، نساء ورجالا، وفتح المجال أمام احتمال تجنيس انتقائي بداية. تلك أمورٌ تحتاج وقتاً لن يشتريه المال بشكل مباشر، لكن يمكن أن يفعل بشكل غير مباشر، بالاستفادة من الطاقات التي تجذبها المؤسّسات التي أقامتها هذه البلاد، فكل بلد يبحث عن استقطاب العقول الخلاقة، ودول الغرب أولها، في انتظار انفتاح المواطنة أمام الجميع، ولو بشروطٍ تتبعها كل الدول، لتحقيق العدالة الاجتماعية لفئات العمّال الذين لا يمتلكون إمكانات علمية أو مهنية كبيرة، لكن أي مجتمع لا يمكنه التقدّم من دونهم.