جائزة أدبية يمنحها السجناء؟
هل لك أن تتخيّل جائزة أدبية رفيعة ومعترفا بها على المستوى العالمي، تقرّر أن تفتتح فرعا جديدا لها مخصّصا للسجناء؟ هذا ما حصل أخيرا في فرنسا، حين اعتمدت جائزة الغونكور الفرنسية، وهي الأرفع والأقدم، جائزة تحمل اسم السجناء، وتعترف بهم قرّاءً مؤهّلين للحكم على عمل أدبي واختياره كأفضل عمل لهذا العام أو ذاك. تلك هي جائزة "غونكور السجناء" التي استنبطت عام 2022 عبر شراكة بين المركز الوطني للكتاب ومديرية إدارة السجون، ووزارتي العدل والثقافة، منضمّة بذلك إلى "غونكور الطلاب"، و"غونكور/ خيار الشرق"، من أجل إدخال الثقافة إلى وسط مستبعد ومهمّش، ألا وهو وسط السجون في فرنسا. هكذا تم اختيار نحو 30 سجنا، تقدّم منها متطوّعون للمشاركة في قراءة 16 عملا أدبيا يختارها أعضاء أكاديمية غونكور، يختارون من بينها تباعا، عناوين قائمة طويلة، ثم قائمة قصيرة، انتهاء بإعلان اسم الفائز، ترافق ذلك كله مناقشات وجلسات تحكيم وتصويت...
أما عن الرواية الفائزة هذا العام، فقد كانت من نصيب رواية أولى نشرتها دار غاليمار العريقة ضمن أهم مجموعاتها "لا بلانش" (البيضاء)، وأُعلن عنها في 15 ديسمبر/ كانون الأول الجاري. الرواية بعنوان "الشروط المثلى"، وهي من تأليف الكاتب الشاب من أصل جزائري، مختار عمودي (35 سنة)، الذي صرّح عدد من المحكّمين أنهم "قد تأثّروا بما وصفوه قصة واقعية للغاية، سلّطت الضوء على أهمية العلاقات الجيدة والسيئة في مصير الفرد".
وبالفعل، فإن القصة واقعية إلى حد كبير، إذ إنها تستلهم حياة الكاتب الشابّ الذي عرف اليتم والفوضى، واضطرّ إلى القيام بخيارات صعبة لا تواجه في العادة من هم في عمره، بدءا من الطفولة، مرورا بالمراهقة، وصولا إلى البلوغ، وهو ما يتيح للقارئ معايشة أمور يجهلها عما يعانيه الأطفال الذين تقرّر الدولة لمصلحتهم، فصلهم عن أهالي قد يشكّلون خطرا على حياتهم، أو يعجزون ببساطة عن رعايتهم، فيكون مصيرهم الانتقال إلى بيوت للحضانة أو الرعاية.
يقول البطل سكندر: "أنا لا أحبّ أن أعيش، أردتُ أن أهشّم رأسي. كانت ذلك أول انفعال غير مدرسي. كنت قد أقنعت ذاتي بأني كنت سيئا وعديم الفائدة للجميع، لأنه في أوقات السلم، أنت لا تتخلى عن طفلك. كنت قد لُعنت منذ الولادة"! هكذا نتعرّف إلى سكندر، في المستشفى، بعد أن ألقى بنفسه في الفراغ، هربا من كوابيس تعاوده باستمرار. لقد تخلّى أهلُه عنه في سن مبكرة جدا، فالأم مدمنة، تعيش حياة فوضوية وتمارس الدعارة لتعيش، والوالد قرّر ببساطة الهرب من مسؤولياته والاختفاء، أما سكندر فهو في عهدة عائلة ترعاه. لكن، عندما يبلغ ثماني سنوات، ستنقلب حياته رأسا على عقب مرة أخرى، بسبب التغيير المفاجئ للأسرة الحاضنة، إذ سيوضع تحت رعاية السيدة خديجة التي تسكن إحدى ضواحي باريس، وتستقبل الأطفال المتروكين، ليس حبّا بهم، وإنما لكي تحظى بمساعدات مالية تمكّنها من العيش.
سكندر، الطفل الذكي، اللطيف، الفضولي ، يتكيف برغم كل شيء، ظانا أن خلاصه يكمن في النجاح المدرسي وحب القواميس والانفتاح على العالم الخارجي. لكن مصائرنا، نحن لا نرسمها دائما بأيدينا، ومهما قاومنا، سيأتي يوم لكي تجرفنا الحياة التي قدّرت لنا ظروفنا البائسة عيشها. في مراهقته، سيتعرّض سكندر إلى ضغوط رفاقه من شباب الحيّ الزعران الضالعين في ارتكاب الجنح على أنواعها، مخدرات، سوق سوداء، سرقات، إلخ. وسيسقط سكندر ويدفع الثمن ويعاقب بالسجن، وسوف نرافقه في رحلته تلك بعيدا عن كل الكليشيهات السائدة حول انحراف أبناء المهاجرين من أصولٍ عربية. هذا كله عرفه مختار عمودي ذو الأصل الجزائري، عن كثب، إنه يكتب من قلب الأشياء ويعرف نبضها، بعيدا عن الصور النمطية السائدة، وبحسّ عال من الشفافية والحساسية وحتى الطرافة، برغم سوداوية الوقائع وحتمية شرطه الاجتماعي.