جريمة قتل توحّد الموريتانيين
هزّت مدينة نواكشوط الوديعة جريمة مقتل الناشط الحقوقي الموريتاني، الصوفي ولد الشين، بعد ساعاتٍ من دخوله مباني مفوضية شرطة استدعته للتحقيق في شكاية ديْن رُفعت ضده. شدّت هذه الجريمة الرأي العام لعدة أسبابٍ، تتعلق بالشخص الضحية، وسبب الجريمة المفترض ومكان تنفيذها، فالرجل مناضل حقوقي معتدل الخطاب، ويترأس تيار اللحمة الوطنية الذي يسعى إلى وحدة البلد وإلى محاربة التيارات المتطرّفة، والتي تسعى، في نظره، إلى تمزيق وحدة الوطن. كما أنه داعم للرئيس الحالي، محمد ولد الغزواني، ومؤيد لمسار المحاكمة التي تجري حاليا، والتي يمثل بموجبها الرئيس السابق، محمد ولد عبد العزيز، وبعض وزرائه ومسؤولون كبار في حكوماته أمام المحكمة الجنائية الخاصة بمحاربة الفساد. .. ما الذي جرى بالضبط وما هي مآلاته المحتملة؟
اشتكى شخصٌ من الضحية بموجب ديْن مستحق بمبلغ، وبناء على ذلك جرى جلبه إلى المفوضية للتحقيق معه. وما هي إلا ساعات قليلة حتى جاء البيان الذي أصدرته الإدارة العامة للأمن الوطني، ويشير إلى أن الفقيد تعرّض إلى وعكة صحية في أثناء احتجازه في المفوضية، ونقل إلى المستشفى لتلقي العلاج، ولكنه فارق الحياة، غير أن حضور أسرة الفقيد إلى المستشفى والمؤازرة الشعبية التي حظيت بها كانت عوامل أدّت سريعا إلى الوصول إلى أن الرجل قتل في المفوضية إثر معاملة عنيفة من أفراد الشرطة.
وقد لعب الإعلام الموازي (وسائل التواصل الاجتماعي) دورا كبيرا في مواكبة الحدث الجلل، حيث أصبح ينقل الأخبار أولا بأول، وتداول الصور الصادمة التي تبيّن آثار تعذيب على الضحية والرمز الحقوقي. كما تنقل تصريحات ذوي الضحية من عين المكان قرب المستشفى، والذي تجمّع فيه أهالي الفقيد ومحبّوه ومساندوهم من كل أطياف الشعب الموريتاني، فقد توالت التنديدات من الحقوقيين ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب والمدونين. ويتفق الكل على مؤازرة الأسرة المكلومة، والمطالبة بتحقيق شفّاف ومستقل وسريع، حتى ينال مرتكب الجريمة البشعة جزاءه إحقاقا للحقّ وإنصافا لأصحاب الدم.
رواية الوعكة الصحية للناشط ولد الشين لم تصمد أمام الضغط الشعبي المسنود بصور للفقيد تظهر آثار تعذيبٍ جلي في أماكن متعدّدة من الجسد
لقد تأرجح التعاطي الرسمي مع الجريمة بين الإنكار وتشكيل لجنتي تحقيق، إحداهما لتشريح الجثة والثانية لتحديد المتهمين وحيثيات الجريمة، إلا أن رواية الوعكة الصحية لم تصمد أمام الضغط الشعبي المسنود بصور للفقيد تظهر آثار تعذيبٍ جلي في أماكن متعدّدة من الجسد، وبحملة في وسائل التواصل الاجتماعي للمطالبة بالتحقيق الشفّاف في القضية، حتى تتبيّن الحقيقة.
القضية منظورة أمام القضاء. ومع ذلك، تشكّل اختبارا ثانيا للعدالة الموريتانية بعد المحاكمة الجارية للرئيس السابق، محمد ولد عبد العزيز، وأهم معاونيه. وقد بينت الجريمة هشاشة الوضع في المفوضيات، فلا كاميرات تسجّل الحوادث، ولا التزام كاملا بالمساطر القانونية، ابتداء من احترام الاختصاص الترابي لمفوضيات الشرطة، وليس انتهاء بضوابط استخدام القوة داخل المخافر. وهذا يطرح جملة تساؤلات تتعلق بإدارة هذا المرفق المهم وجاهزيته، للقيام بالمهمة الشريفة المسندة إليه، وهي حماية المواطن وضمان أمنه. وقد أفضى عمل لجنة تحقيق في الجريمة إلى تحديد المتهمين وتكييف التهم الموجهة إليهم، والتي تتراوح بين القتل العمد والتستر على الجريمة وطمس الأدلة والرشوة.
قضية مقتل الناشط بين يدي الشرطة اختبار ثان للعدالة الموريتانية بعد محاكمة الرئيس السابق
وقد تداعى للصلاة على الصوفي ولد الشين الموريتانيون بجميع مكوناتهم الاجتماعية والسياسية والشخصية، فمن المعتاد أن يشيع الموتى ذووهم ومعارفهم، فما الذي أدّى بالموريتانيين إلى أن يظهروا بهذا المظهر الجميل المتناسق والمتضامن مع شخصٍ لم يكن معروفا في الحقل السياسي، حتى وإن كان يقدّم صوتيات يجري تداولها في بعض مجموعات واتساب؟ فهل هو وعي جديد تضافرت عدة عوامل لإنضاجه وظهوره على السطح؟ من يا تُرى سيستفيد من هذا الزخم؟ أهو الشعب الموريتاني من خلال تقديم الجناة للعدالة وإنزال العقوبة بهم بحجم ما اقترفوا؟ أهي الحكومة وهي على أبواب انتخاباتٍ متعدّدة المستويات، بلدية وجهوية ونيابية، وهي بأمس الحاجة إلى إنجاز سنوات تعثر تنموي، رافقته أزمتا كوفيد 19 والحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها على تزويد البلد المعتمد على الخارج في أكثر من 90% من البضائع والمحروقات؟ أهي أحزاب المعارضة التي بقيت على الصمت، منذ التقى رؤساؤها أفرادا وزرافات، بالرئيس محمد بن الشيخ الغزواني؟ أم أنها سحابة صيف ما تلبث أن تختفي وينساها الناس، وترجع حليمة إلى عادتها، وينتظر الشعب الضحية التالية؟
قد تكون الإجابات عن كل هذه الأسئلة مزيجا من كل ما تقدّم، فيمكن أن تنتهز الدولة الفرصة لإعادة النظر في قطاع مهم، مثل قطاع الشرطة، من حيث معايير اختيار منتسبيه وتدريبهم وتزويدهم بالتجهيزات اللازمة، وربما إسناده إلى أحد أبنائه، وهو ما لم يحدُث منذ الانقلاب العسكري في 1978. كما يمكن أن تكون فرصة لإنعاش الساحة السياسية وتجديد الخطاب المطلبي لأحزاب المعارضة، ورفع الحرج عنها. وإذا لم يكن استغلال هذا الزخم بصورة إيجابية، فمن الوارد أن تستغله الحركات المتطرّفة، وتعزف على وتر الشرائحية الذي يحرّك غالبا في المواسم الانتخابية، خصوصا إذا لم تُفض المحاكمة إلى إنزال عقوباتٍ رادعةٍ بحقّ من يثبت عليهم القتل.