جهنّم في سورية وذاك جحيمٌ لا ينقصه شيء
في التسجيل المصوّر القصير، يظهر خمسة رجالٍ وقد أخفوا ملامحهم بعناية داخل أقنعة سوداء، اثنان من بينهم يحملان بندقيتي كلاشينكوف، يجاورهما اثنان آخران غير مسلّحَين، بينما بدا الخامس منهمكاً في قراءة البيان المقتضب، والذي أعلنوا فيه أنهم في السويداء (جنوب دمشق بنحو مائة كيلومتر)، باتوا "جزءاً من حركة التحرّر الوطني السوري، بهدف استكمال مسيرة الثورة السورية العظيمة، ومواصلة النضال لتحرير البلاد من سطوة الطغيان والاستبداد".
ذاك البيان جرى تناقله مع قسطٍ وافرٍ من الحفاوة على منصّات التواصل الاجتماعي في مطلع شهر أغسطس/ آب، من دون أن يتبنّاه أيُّ طرفٍ مسلّح في السويداء ذات الغالبية الدرزية. لكن من المرجّح أن يكون أولئك الأشخاص منتسبين إلى حزب اللواء السوري، أو قوّة مكافحة الإرهاب المتحالفةِ معه. ثُمَّ إنه جاء متزامناً مع كل الخلاصات النظرية التي طافت حول بيان حركة التحرّر الوطني السوري، حين استمعنا إليه من مدينة عفرين التابعة لريف حلب الشمالي، وذات الغالبية الكردية، وعلى لسان المقدّم أحمد القناطري الناطق الرسمي باسم المجلس العسكري السوري، وقد توسّطَ أربعةَ ضباط برُتبٍ مختلفة، وأمامهم جلسَ جمهورٌ بدا أنّ أغلبهُ جاء من منابتَ مختلفة. أما مضامين البيان، فكادت تستأنسَ بما هو خارجٌ عن ملّةِ الأدبيات العامة للثورة السورية، ومطالبها في إنهاء حكم آل الأسد ومن يحالفهم من مليشياتٍ ودول داعمة، وجدولة انسحابها بما يتناسب مع سياسة سورية المستقبليّة، من دون إنكار إمكانية التعاون مع قوًى إقليمية ودولية تدعم تلك المطالب. ولعلّ ذاك التعاون هو المتغيّر الوحيد الذي كان بإمكانه استخراج "حركة التحرّر الوطني السوري" من بين أركان إفلاس المعارضة السياسية السوريّة، وتحويلها إلى مبادرةٍ قابلةٍ للإدراك والانبعاث، وترك مهمّة الإعلان عنها إلى قائد المجلس العسكري السوري، العميد مناف طلاس، بحيث تبقى مكوّناتها ومنهاج حركتها مرتبطين بالسردية الجديدة للمنطقة، وفق معايير مطبخ البنتاغون، وتفضيلاته لتلك الوصفة الصيفيّة.
وحين وقعت سورية تحت سلطة القبّة الحرارية أخيرا، أدرك سكّانها، ولا سيما القاطنين منهم تحت سلطة قبّة النظام، بأنهم باتوا ملتصقين بقاع الجحيم، مثبّتين هناك بأوتاد محكمة يصعب الانفكاك منها، ولكنْ يسهُل هجاؤها فقط. وجحيمهم ذاك مكتمل الأركان، لا ينقصُه شيء، وفيه تزورهم كهرباءُ النظام ساعة، ثم تغيب عنهم خمسا، فتقترح إنْ جاءتهم تداوياً عاجلاً بهواء بارد، أو ربما بماءٍ أقلّ برودة، يشبه المسكّنات الصيدلانية لتخفيف آلام الحرّ المبرحة، وآثاره الجانبية.
غالباً لا تفصح الولايات المتحدة عمّا تبيّته من نوايا للجميع، إذ تجعل تصريحاتها الرسميّة تمكثُ في وادٍ، ومخططاتها الفعلية تمكث في وادٍ آخر
تلك القبّة الحرارية ليست أسوأ عليهم حالاً من قبّة النظام الاستبدادية، إذ وتحتها ارتفعت حرارة الليرة السورية إلى معدّلاتٍ غير مسبوقة، وانهار سعر صرفها أمام الدولار، رافعةً معها درجة حرارة أسعار السلع إلى نحوٍ لا تُطيقه الدخول الهزيلة، بحيث صار من الصعب لمسُها، لا شراؤها. وبذلك تخجل حركة الناس من ارتياد الشوارع في مناطق سيطرة النظام، أو تكاد تكون طفيفةً إن وُجدت، وكأنها تتدارى بمكر يسهُل استنتاجه، لعلّها تتفادى مزيداً من نزق حرارة القبّة المناخية، ونزق كدمات السياسة التي يتناوبون على استقبالها من تحت قبّة عصابةٍ تحكم.
لكن القلق والترقّب يتناوبان أيضاً على احتلال أجواء الفضاء الاجتماعي ليس فقط في دير الزور ذات الامتداد المترامي، بل وعلى امتداد ذاك القوس الفسيح الذي يبدأ من الشمال الشرقي، وينتهي عند الجنوب الغربي للبلاد، وقد ابتزَّ الحياةَ الراكدةَ في تلك المساحة الملتوية، الأشبه بالهلال، عدا عن الحرّ المشترك سوريّاً، النيات الأميركية المتسارعة صوبها، بعدما أرسلت الولايات المتحدة في منتصف شهر يوليو/ تموز الفرقةَ الجبلية العاشرة، والتي كانت متمركزة في قاعدة "فورت درم" في نيويورك، باتجاه كلّ من العراق وسورية، وهي إحدى أهم فرق المشاة الخاصة لديها.
ذاك الارتياب من التحرّك الأميركي اشتراهُ الإيرانيون المنتشرون في دير الزور بثمنٍ باهظٍ من التوجّس والريبة، ربما لأنه تدفّق إليهم بوفرةٍ وعلى عجالة، فيما ارتداه "جيش سوريا الحرّة" المنتشر على مدارات قاعدة التنف العسكرية بزهو من عادت إليه الحياة بعد انقطاعها، كما وينتظرُ اكتمالَ نصابه ذاك حزبُ اللواء السوري، وقوّة مكافحة الإرهاب التابعة له في السويداء، جنوب سورية، فالفرقة الأميركية تلك كانت قد انتشرت في السابق أكثر من 20 مرّةً في العراق وأفغانستان، أيّ أنّها تعرف المنطقة جيداً، ومعتادة على مناخها الاجتماعي والسياسي، وسينتشر منها نحو 2500 عنصر في كل من العراق وسورية عشرة أشهر.
تخشى إيران والعناصر المحلية المتحالفة معها من وقوع مواجهات مباشرة على الأرض
وغالباً لا تفصح الولايات المتحدة عمّا تبيّته من نوايا للجميع، إذ تجعل تصريحاتها الرسميّة تمكثُ في وادٍ، ومخططاتها الفعلية تمكث في وادٍ آخر، فحتى لو صرّحت علانيّةً بأن قدوم تلك الفرقة هو مجرّد نشاط عسكريّ طبيعيّ وإجراء اعتيادي، إلا أن استقدام الفرقة العاشرة الجبلية ربما يكون لغاياتٍ أخرى تماماً، وهذا اتضح أكثر حين سجّلت حرارة القلق الإيراني رقماً عالياً بالتزامن أيضاً مع نشر الولايات المتحدة لطائرات أف 16 وأخرى من طراز أف 32 في منطقة الشرق الأوسط. كلّ ذلك أوقدَ حساباتٍ إيرانية جديدة في دير الزور، كما في سواها من مناطق القوس الممتدة من الشمال الشرقي، إلى الجنوب الغربي، فالقوات الأميركية الموجودة في سورية لم تعد تقتصر على قوامِ 900 جندي فقط، الأمر الذي جرَّ إيران إلى استنفار مليشياتها المنتشرة هناك، وفي مقدمتها فصيل فاطميون الأفغاني.
تخشى إيران والعناصر المحلية المتحالفة معها من وقوع مواجهات مباشرة على الأرض ربما تكون مع "قوات سوريا الديمقراطية" (قسد) أو قوّات "الصناديد" أو أخرى من مكوّنات عشائرية محلية يجري حشدُها وتصنيعها لهذا الغرض، وسيكون هذا مرتدياً غطاءً جوّياً تؤمّنه قوات التحالف الدولي تحت قيادة الولايات المتحدة بطبيعة الحال، وهذه قبّةٌ ثالثة نسجها الارتياب الإيراني من مستجدّات الوجود العسكري الأميركي في سورية.
وإن عُدنا إلى نهاية فبراير/ شباط من هذا العام سنجد كيف استثمرت ما تُسمّى "المقاومة الشعبية" المدعومة من إيران رصيداً لا بأس به للنيْل من هيبة التحالف الدولي، ومن هيبة الولايات المتحدة بصورةٍ خاصة في شمال وشرق سورية، حين هاجمت بعضاً من تلك القواعد في مناطق رميلان وخراب الجير والعمر، وقتلت جندياً وجرحت ستة جنود، وكان ذلك سبباً منهجياً وكافياً لأن تزجَّ الولايات المتحدة بمنظومتي صواريخ من طراز هيمارس في الخدمة داخل قاعدتي العمر والرميلان، حيث الحقول الأكثر ازدهاراً لاستخراج النفط الخام السوري.
تخجل حركة الناس في سورية من ارتياد الشوارع في مناطق سيطرة النظام، أو تكاد تكون طفيفةً إن وُجدت
أيضاً، ومع نماء الخراب داخل جسد دولة النظام السوري، وتملّك الهزال الحاد من منظومة مدخلات الخزينة العامة، وتنعّم السلطة بالانهيار الاقتصادي العام، وهو البعيد تماماً عن تأثير القبّة الحرارية، تصيرُ الأجواء العامة مواتيةً أكثر من أي وقتٍ مضى لاستكمال ذاك الطوق الأميركي من الشمال نزولاً إلى الشرق ثم انعطافاً منه باتجاه الجنوب، وسيكون التسويق الرسميّ المرتقب لهذا الطوق قطعُ الطريق الدولي الذي تمتطيه قوافل كبتاغون الأسد حين تغادر مصانعها في الداخل السوري، وتقصد معبر البوكمال شرقاً باتجاه العراق، أو معبر نصيب الحدودي في جهة الجنوب باتجاه الأردن، وما سيترّتب على ذلك من احتمال وقوع معاركَ واسعة الطيف تستدعي إليها المليشيات الإيرانية، وتختبر مدى نفوذها وتغلغلها في شرق سورية وجنوبها. جاء هذا مع إعلان النظام السوري بدء مناوراتٍ تخوضها قواته البريّة بالذخيرة الحيّة في البادية السورية، كما عادت روسيا، أخيرا، إلى تسيير دوريات شرطتها العسكرية في القرى الدرزية المتاخمة للحدود الأردنية، للإيحاء بأنهم لم ينكفئوا لحظةً عن مراقبة الحدود، ولجم عمليات تهريب المخدّرات من خلال منافذها المتاحة.
لكن صيف الشرق الأوسط يظلُّ يتمطّى بلا خجل أو استحياء، وكأنه مناورةٌ مناخيةٌ سياسيةٌ لا تهدأ، ومع انطلاق فعاليات شهر أغسطس/ آب منه، تنبّه مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في لبنان بأنهم جزءٌ من ذاك الاستدرار المناخي الأميركي، فاشتبكت فصائلهم هناك، وطلبت السعودية من رعاياها مغادرة لبنان، ومنعت السفر إليه، وأوقفت أعمال ترميم سفارتها بدمشق، وطلبت من نظام بشّار عدم إرسال سفيره إلى الرياض، لتنتهي المبادرة العربية بالخيبة، وهذا منتظر ومتوقع للغاية، لكنه ضروري لرفع الحرج عن العرب، وتحميل بشّار الأسد وزر الكوارث التي تنتظر سورية، والمنطقةَ برمّتها، ثم يعبر الأسطول الخامس الأميركي قناة السويس، يحمل إلى المنطقة أكثر من ثلاثة آلافٍ من نخبة قوات البحرية الأميركية، وعليهم أن يصدّقوا فقط أن سورية جحيمٌ لا ينقصه شيء.