حاجتنا أُمّ اختراعنا في غزّة
سرحتُ وابتسمتُ حين تذكّرت قصة الجدّة التي دأبت على قطع ذيل السمكة قبل شيّها، وقد رأتها زوجة الابن الشابة تفعل ذلك فقلّدتها، وحين سأل الحفيد جدّته عن ذلك، كان ردّها مضحكاً، وليس لسببٍ هام، مثل أن يكون الإبقاء على ذيل السمكة يؤثّر على لذّة باقي أجزائها، مثل ضرورة التخلّص من أجزاء داخلية للدجاجة قبل طهيها. ولذلك دلّ ردّ الجدّة على أن التقليد أو الفكرة وليدة اللحظة تدوم وتنتقل، ولذلك يمكن الاستشهاد بمقولة "الحاجة أمّ الاختراع".
كان السبب الوجيه لدى الجدّة أنها لا تمتلك مقلاة واسعة، لكي تضع بداخلها السمكة بكاملها، ما دعاها إلى قطع الذيل، وقد حذت زوجة الابن حذوها لكي لا تتّهم بأنها ليست طاهية ماهرة، فقطع ذيل السمكة، وما زلنا نقطع ذيول الأسماك الصغيرة التي يصطادها الصيادون الفقراء من بحر غزّة في أيام خلت، وخصوصاً نوع سمك السردين، والذي كنتُ أقطع ذيلَه على صغر حجمه، ولست أدري لذلك سبباً، وإنْ كانت شفقة تتولّد داخلي على السمك الصغير ومن سيأكله، لأننا وبالمناسبة، وبعيداً عن الاختراعات وبداية ظهورها، لم نكن نحظى سوى بهذا النوع الرخيص من أسماك بحْر غزّة، ونمرّ من أمام أنواع أخرى مكتنزة اللحم، كبيرة الحجم، لارتفاع ثمنها، وحيث تُصدّر إلى المطاعم التي يرتادها من لا يعرفون قيمة المال لكثرته.
اليوم، ابتسمتُ ابتسامة واهية، حين أعلن الصبية الصغار عثورهم على نوع من الخضار التي تنبت من دون حاجة لزراعتها، ويطلق عليها اسم المزروعات البعلية، وهي تظهر فوق سطح الأرض حين يصيبها ماء السماء بأيام قليلة.
في جنوب غزّة، أي في مدينة رفح، وفي المنطقة التي استقرّ بنا الحال بها بعد نزوحٍ متكرّر، والتي يغلب عليها الطابع الريفي، يمكنك أن ترى مساحاتٍ صغيرةً من الأراضي الزراعية تلتف حول أعداد قليلة من البيوت البسيطة، ولذلك يمكنك بسهولة العثور على بعض أصناف الخضار والأعشاب البعلية، والتي يعرفها السكّان المحلّيون، ويستفيدون منها خصوصاً في فصل الشتاء، ولعدة أيام قبل اختراع المبرّدات التي تعمل بالكهرباء.
واليوم، ونحن نعود إلى زمن ما قبل اكتشاف الكهرباء، نحن نشكر الربّ كثيراً لأن الجو البارد لا يساعد على تلف أطعمتنا القليلة سريعاً، والتي لا نحصل عليها بسهولة. ولذلك، أثلج إعلان الصبية عثورهم على أعواد كثيرة لما تسمّى "الحماصيص" صدري، بصفتي المسؤولة عن تدبير الوجبة الرئيسية الوحيدة كل يوم لكل هذه الأعداد من الأفواه الجائعة.
أعلنت أن طعام الغداء لهذا اليوم سوف يكون مطهو حساء هذا الاكتشاف العظيم، ووسط تهليل الجميع تعالى صوتٌ جانبيٌّ منبّهاً بأننا لا نملك عدساً أسمر كاملا، وهو يُضاف إلى هذا الصنف منذ وعينا على هذه الحياة، وقد اختفى العدس الأسمر من الأسواق منذ بداية الحرب.
لم يسقط أبداً بيدي، ولاح شبح ابتسامةٍ جاهدتُ لكي لا تكون ابتسامة ماكرة على وجهي المتعب، ووجّهت ردّي إلى الجميع بأن جدّاتنا العظيمات كنّ يطهين هذا الصنف الذي يتميّز بحموضة محبّبة، وتزيّن أطباقه برشّاتٍ من زيت الزيتون، بالعدس على جميع أنواعه، سواء الأسمر أو الأصفر، وقد غمزتُ بعينيّ وقتها، وهلّل الجمع ثانية، قبل أن يسقط في أيديهم، وتبرّعوا لجمع أكبر قدر من أعواد الحطب القصيرة، فيما استعدّ آخرون لإشعال النار، وفيما انزويتُ سريعاً في مكان ما، كعادتي، وضحكت بسخرية بكل حرية.
لم تكن جدّاتنا أبداً يفعلن ذلك، ولكن الحاجة أمّ الاختراع، ونحن نمتلك كمية من العدس الأصفر الذي نحصل عليه معونات من وكالة الغوث (أونروا). ولذلك سوف يضاف هذا الاكتشاف إلى قائمة طويلة من الاختراعات التي تولّدت عن الحروب ومآسيها، مثل النساء اللواتي كن يخطن أكياس الخيش التي توزّع بها المواد التموينية قبل أكثر من مائة عام. وفي زمن الحروب أيضاً سوف تقف ربّة بيت ماهرة ذات يوم لتطهو هذا الصنف، وتعدّه مع العدس الأصفر، وهي لا تدري قصة اكتشاف هذه الطريقة، وربما بكت لو عرفت كم تحمّلتُ لأكذب، ولأجعل كل هؤلاء حولي يصدّقون كذبتي.