09 نوفمبر 2024
حاشية بشأن موغابي
قال رئيس زيمبابوي، روبرت موغابي (93 عاما)، مرّة، إنه مستمر في حكم بلاده حتى يبلغ عامه المائة. وإذا صحّت أخبارٌ ذاعت أمس الأربعاء عن استيلاء الجيش في هذا البلد على السلطة لمجرّد التخلص من "مجرمين" يحيطون بالرئيس، من دون أن يحدث انقلابٌ مكتمل الأركان، فإن في وسع موغابي أن يحكم زيمبابوي سبع سنواتٍ أخرى، إذا متّعه الله بالصحة ومزيدٍ من طول العمر. وكان أطباء قد أشهروا، قبل شهور، "اندهاشهم" من بِنْيته القوية. وحتى لو صحّ أن فخامته في إقامةٍ جبرية، على ما تردّد، فهذه قد تكون إجراءً لأمرٍ ما، قد يطول وقد يقصر. وفي البال أن زوجته كانت قد دعت إلى التصويت له في انتخابات الرئاسة في العام المقبل، حتى لو توفي قبل ذلك (!). أما إذا كانت نية قائد الجيش، وضباطه الكبار، على المعهود الانقلابي في تحرّكاتٍ كهذه، فإن سيرة واحدٍ من زعامات أفريقيا المثيرة ستطوي صفحاتِها، ويذهب موغابي إلى موقعٍ في التاريخ، مشوّش وعويص. وليس في وسعك أن تتعامى عن انتهاكاتٍ جسيمةٍ ارتكبها، ولا عن قبضته التامة على مجمل السلطات، ولا عن تردّي الأوضاع الاقتصادية، وانهيار العملة الوطنية، غير أنك تجد نفسك، وأنت تردّد الصحيح وغير الصحيح عن زيمبابوي وحاكمها، المناضل العتيق والدكتاتور الراهن، أمام معلومات مصادر غربيةٍ ذات لغةٍ واحدة. ومهما بلغت دقة هذه المصادر، فإن عليك أن تطلّ على مرويةٍ أخرى. وفي الصحافة، لا تكون المعلومات (الحسّاسة خصوصا) صحيحةً ما لم يؤكّدها مصدران أو أكثر. ولا تستحق الصحافة الاستقصائية اسمها هذا إذا لم تتوفر المعلومات فيها من مصادر مختلفة، ومتعاكسة المواقع والمواقف.
لا يمكن الدفاع عن موغابي، أو عن دكتاتوريته وتسلطه المعلوميْن، لكن هذا لا يبيح استهزاءً مسبقا ومرتجلا بإشادة منظمة الصحة العالمية التابعة للأمم المتحدة بوضع هذا الرئيس المستبد النهوض في قطاع الصحة في جوهر سياساته، "لتوفير الرعاية الصحية للجميع"، ما جعل مدير عام المنظمة، الأفريقي تيدريوس غيبريسيوس، يعيّنه، الشهر الجاري، سفيرا للنيات الحسنة للأمراض غير المُعدية في أفريقيا (منصب شرفي)، قبل أن يتراجع عن قراره هذا، بعد غضبٍ واسعٍ شنته منظماتٌ حقوقيةٌ دوليةٌ، وحكوماتٌ وشخصياتٌ عالمية. وأسبابُ هؤلاء وجيهة في إطنابهم بشأن أرشيف موغابي السيئ في ملف حقوق الإنسان، غير أن أحدا لم يخبرنا ما إذا كان أرشيف هذا الرئيس سيئا أيضا في ملف الرعاية الصحية لمواطنيه. لا أعرف، ولم تتيسّر أمامي معلوماتٌ موثقة في هذا الأمر، ولم أتعب نفسي في بحث الموضوع، ليس فقط لأن المزاج ليس في وارد أن ينشغل بصحة ناس زيمبابوي، وإنما أيضا لغياب فضول المعرفة في هذا الشأن.
طالما طالعنا عن مصادرة روبرت موغابي آلاف المزارع من مستوطنين بيض في زيمبابوي، ومنحها لمواطنين سودٍ من بلاده. وطالما قرأنا عن فشل إجرائه "الإصلاحي" هذا، وإخفاق من تسلموا هذه المزارع في أن تثمر منتوجا كبيرا، على غير حالها إبّان كانت مع من صودرت منهم. هذه هي المرويّة الشهيرة، والتي ظل التعامل معها باعتبارها بديهيةً، كما نتلقّاها من الصحافات الغربية. ليس في وسع صاحب هذه الكلمات أن يحسم في هذه المسألة التي يُذكر بشأنها أن البيض كانوا يسيطرون على 70% من الأراضي الزراعية، غير أن ثمّة من أفاد بأن نتيجة ما أقدم عليه موغابي ليست الفشل التام، فثلثا المزارع التي آلت إلى نحو مائة ألف أسرة من السود منتجةٌ ومربحة، بعد أن كان ثلثها مفلسا وغير منتج، لمّا كانت بين أيدي أولئك.
لا إضاءات إعلامية كافية، ووافية الصورة ومكتملة الجوانب، بشأن أحوال زيمبابوي وأوضاعها، وإنْ من المؤكّد أن كثيرا منها مزرية. ولا سرديةَ أخرى عن الدكتاتور موغابي غير التي يبثها مناهضوه في الغرب والشرق، وقد زادت من كثرة هؤلاء وأولئك فظاظة هذا الرجل، وطول لسانه عليهم وعلى غيرهم، وقد عوقبت بلاده اقتصاديا من الغرب بسبب عدم احترامه اللياقات، واتباعه نهجا في الاقتصاد والإدارة والتخطيط لا يستقيم مع الهوى الاستعماري، والثوب الإمبريالي، إياهما. ولا ينكتب هذا الكلام هنا عن قناعةٍ بشعبوية موغابي، ولا اكتفاءً بما كان عليه في شبابه مناضلا ضد الاستعمار البريطاني (سجن عشر سنوات)، وإنما صدورا عن رغبةٍ بمقادير من التحرّر من سطوة روايةٍ واحدة، فلأي صورةٍ ظلالٌ وحوافُّ منظورةٌ وغير منظورة.. وقصة موغابي شرحُها يطول.