حدودٌ جديدة يُسيّرها الكبتاغون وأسماء الأسد
كلُّ ما يعرفه وزير التراث الإسرائيلي، عميحاي إلياهو، أنَّ على كيانه إيجاد طريقة مؤلمة أكثر من الموت تشقُّ أنفاس الفلسطينيين، وتعجّل في حسم المعركة العسكرية ضدهم، وفي هذا تمكينٌ جديد لمفهوم الإبادة الجماعية غير الذي تحدّث عنه رافائيل ليمكين عام 1944 حين تناول مفهوم الإبادة الجماعية أنّها تدميرٌ جَسُورٌ منهجيٌّ ومتعمّد يكون كلياً أو جزئياً، ويَتَسِق على أسس إثنيّة أو دينية أو قومية. لكن الإبادة الجماعية للأرمن، والتي جعلت ذاك المحامي البولنديّ يهتدي إلى تعريفه الشهير للإبادة الجماعية آنذاك، تكادُ تكون في أيامنا هذه مجرّد استمهال وظيفيّ مؤقت بين كلّ موت وآخر يسير داخل جِلْدِ قطاع غزّة، والذي بات نحو 4% من سكّانه يتناوبون على حجز مقاعدَ لهم في سجلات الموت أو الإصابة أو التهجير، ذلك كله على تخوم جبهة حربيّة لئيمة، لا تجاهر إلا بتبنّي خيار الموت الجماعي للفلسطينيين، وتريد توسيع حدوده إلى أبعد من غزّة، شمالاً حيث الجنوب اللبناني، وإلى الشمال الشرقي حيث القنيطرة السورية.
وليست خافية هنا إصابة المبادرة الأميركية الخاصة بإيجاد حلول لكل ملفات المنطقة بالفشل، تلك المبادرة التي تحدّث عنها أخيراً السفير الإيراني في دمشق، حسين أكبري، ونعَى مصيرها الخائب، لكنها وفي آن أسفرت عن توافد مزيد من الخيارات العسكرية الإسرائيلية، واتساع مساعيها لتصل إلى بيروت، حين اغتالت هناك نائب رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، صالح العاروري، ثم أعقبت ذلك باغتيال القيادي البارز في حزب الله، وسام الطويل، والذي يشاع عنه بأنه صهرُ حسن نصر الله، ليكون الموت بضاعةً يسهُل على إسرائيل تصنيعها ومن ثمّ تصديرها، كما يفعل النظام السوري بالضبط. لكن الأخير يزيد على ذلك بتنويع استثماراته من الإبادة إلى التصفية السياسية، كما فعل أخيراً حين اعتقلت أجهزته الأمنية في اللاذقية المحامي سامر رجب، بعد تطويق المنطقة التي يقطن فيها بطريقة استعراضية باذخة الدلالة، بغرض إخافة الحاضنة الطائفية للنظام، وتذكيرها بأن القبضة الأمنية هناك لا تزال شديدة ومرعبة، حتى وإن كانت رخوةً ومائعة في تعاملها مع انتفاضة الدروز جنوب البلاد، لكن اللافت هنا أن علاقة المصاهرة التي تربط المحامي العلوي المعتقل مع عائلة الأسد الحاكمة للبلاد منذ أكثر من نصف قرن، لم تشفع له في تجنّب قَدَر الاعتقال ومهانته، فزوجة سامر رجب هي سماح ابنة جمال إبراهيم الأسد، وإبراهيم الأسد هذا هو شقيق حافظ الأسد، ولكن ليس من الأمّ نفسها، كما أن شقيقة سامر رجب هي زوجة دريد ابن رفعت الأسد، ولرجب استثمارات واضحة ومتعددة في تلك المدينة الساحلية، لكن الأتاوات التي يفرضها المكتب السريّ وهو الذراع التنفيذية لسياسات أسماء الأسد، والتي تسطو من خلاله على المال العام أصبح مؤذياً حتى لحاضنة النظام الطائفية، وبسببه أغلق كثيرون استثماراتهم ليس فقط في الساحل السوري، وإنما في مناطقَ أخرى تخضع لسلطة النظام الحاكم، وكلُّ ما فعله المحامي المعتقل، صهرُ عائلة الأسد أنه انتقد من خلال حسابه على "فيسبوك" دور ذاك الجهاز المخزي، وباقي الأجهزة الأمنية التابعة للنظام السوري، ووصفهم بأنهم باتوا خدماً لدى سيدة النظام الأولى.
لا تزال انتفاضة السويداء تصيح منذ ستة أشهر، بأن سورية واحدة، وشعبها واحد، تصيحُ، ولا يصدّقها أحد
ترسم إذاً أسماء الأسد حدوداً جديدة لمساحة نفوذها التي لا تعرف شبعاً داخل منظومة الاقتصاد الريعيّ لدولة زوجها المفلسة، لذلك نجدها تُجاهر على الدوام برغباتها في الاستيلاء على أكبر مقدارٍ ممكن من السيولة النقدية، وهذا متاحٌ بلوغُه إن أطبقت بمكتبها السريّ على مخرجات الاقتصاد الريعي، وأغرقته بالضرائب والأتاوات، أو من خلال رفع أسعار ما يقدّمه من خدمات، كما هو الحال مع قطاع الاتصالات في سورية، سواء بزيادة أسعار تلك الخدمات دورياً، أو من خلال التمسّك بضرائبَ مرتفعة للغاية على الهواتف الخلوية المستوردة، وأخيراً حين أجبرت شركة إيما تيل للاتصالات الجميعَ في سوق الاتصالات السوريّة على عدم بيع الهواتف المستعملة ما لم تكن تحوي على لُصاقةٍ تحمل اسم تلك الشركة، والتي تعود إيراداتها بالكامل إلى أسماء الأسد، أو "إيما" كما كانوا ينادونها في بريطانيا في أثناء سنوات دراستها الطويلة وعملها هناك، قبل أن تستعيد اسمها الحقيقي وتلصقه بعائلة الأسد زوجةً لرئيس النظام القائم، لكن ومن المستهجن أيضاً أن تكون "إيما تيل" هي أول شركة اتصالات عربية تطرح هاتف "سامسونغ غالكسي إس 21 ألترا" للبيع في صالاتها، بالرغم من كلّ العقوبات الاقتصادية الغربيّة المفروضة على النظام السوري، وفي ذلك ترجيحٌ للافتراض الذي يقول بأن تلك العقوبات تمتلك مزاعمَ عديدة، وبالإمكان ثنيها عند الضرورة. ثمّ ولكي تحرم زوجة رئيس النظام السوري المؤسّسات العامة من الجباية المالية لخدماتٍ أساسية مثل الاتصالات الأرضية والكهرباء والمياه، قرّرت دفع فواتير تلك الخدمات اعتباراً من مطلع العام الحالي بواسطة تطبيقات الدفع الإلكتروني الخاصة بشركتي الاتصالات الخلويتيّن اللتين تعود إيراداتهما إلى أسماء الأسد مباشرةً، وبالتالي، لم يعد مسموحاً للناس بأن يدفعوا فواتيرهم لدى تلك المؤسّسات، التي سيكون لزاماً عليها بيع خدماتها من دون إمكانية جباية أثمانها، ما يعني استطراداً بأن أسماء الأسد ستصير أكبر جابٍ للفواتير في كل الأراضي السورية اعتباراً من العام 2024.
ترسم أسماء الأسد حدوداً جديدة لمساحة نفوذها التي لا تعرف شبعاً داخل منظومة الاقتصاد الريعيّ لدولة زوجها المفلسة
لكن سطوع نجم الجباية هذا في سورية السعيدة ترافق مع سطوع نجم الكبتاغون أيضاً، فزوجة رئيس النظام تتكسّب من نهب منافذ الاقتصاد الريعي الخدمي، وتتغذّى على ذلك المال، وبه تُسمّن أرصدتها البنكية، أما زوجها فيستفيضُ بترويج تجارة الممنوعات، ويُمطر الحدود الأردنية بها، وكأنه يقلّد "طوفان الأقصى" حينما يسلب منه فكرة "الإغراق" ويعيد تسديدَها إلى الجوار مملوءةً بهلوساته المريضة، غير أنّ الأردن يريد توفير حدودٍ آمنة له مع سورية غير الحدود الحالية التي يرسمها كبتاغون الأسد وصحبه من مرتزقةٍ إقليميين، يريد إذاً حدوداً تُحاصر مسيرة هذا المخدّر المدمّر للجهاز العصبي من لحظة تصنيعه داخل 20 معملاً منتشراً في جنوب البلاد، إلى لحظة وصوله إلى مستقبليه في الأراضي الأردنية، ليكمل ترحاله الممرض بعد ذلك صوب دول الخليج، وهذا ما جعل الأردن لا يبخل على الجنوب السوري بسلسلة من العمليات العسكرية البريّة والجويّة، منها أخيرا إنزالٌ جويٌّ داخل الأراضي السورية، بهدف اعتقال مهرّبين لهذه المادة المخدّرة، لذا يصير الحديث عن إنشاء منطقة آمنة في جنوب سورية بعمق 30 كيلو متراً أمراً جادّاً يدفع الأردن به بقوّة إلى حيّز التنفيذ الواقعي باعتباره مسألة أمن قوميّ لا تخصّ المملكة فحسب، وإنما تتصل بالأمن القومي للمنطقة برمّتها، والذي بات مُهَدَدَاً من تلك التجارة المرعبة التي يستولي على الجزء الأكبر من إيراداتها طاغيةُ دمشق وصحبُه الإيرانيون، فتلك هي سورية التي زوّجها سفّاحٌ مختلٌّ وتاجر مخدّراتٍ بالإكراه من خمسة احتلالات عسكرية، لتنجب هذا النسل من الحدود الداخلية والمناطق التي تسوسها ولاءاتٌ ونوايا مختلفة، فيما لا تزال انتفاضة السويداء تصيح منذ ستة أشهر، بأن سورية واحدة، وشعبها واحد، تصيحُ، ولا يصدّقها أحد.