حرب أكتوبر... في تذكُّر التجْريدة المغربية
حلّت، مطلع شهر أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، الذكرى الخمسون لحرب 1973، التي انطلقت شرارتها بهجومٍ مباغتٍ شنّته القواتُ المصرية والسورية على القوات الإسرائيلية على جبهتي سيناء والجولان، من أجل استعادة الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل في حرب 1967. وعلى الرغم من إخفاق الجيوش العربية في استعادة هذه الأراضي وتحويل التقدّمِ، الذي حقّقته مع بداية الحرب، لانتصارٍ بيّنٍ لأسبابٍ لا يتسع المجال لعرضها هنا، إلا أن الذاكرة العربية لا تزال تحتفظ بجوانب مضيئة حفلت بها تلك الحرب، كان أبرزها مشاركةُ قوات عربية، إلى جانب القوات المصرية والسورية، في القتال ضد العدو الصهيوني. ومن ذلك مشاركة كتيبة مغربية (سمّيت في أدبيات حرب أكتوبر التجريدة المغربية)، أرسلها الملك الراحل الحسن الثاني إلى سورية لتشارك، إلى جانب الجيش السوري، في معركة تحرير الجولان المحتل، إضافة إلى كتيبة أخرى أرسلها إلى الجبهة المصرية.
لم يكن قرار الحسن الثاني إرسال قوات مغربية إلى سورية ومصر بعيداً عن الاحتقان السياسي الذي كان يشهده المغرب مطلع السبعينيات، خصوصاً بعد الارتجاج الذي أحدثته محاولتا الانقلاب الفاشلتان (1971) و(1972) على أكثر من صعيد. فكان القرار، في جانب منه، محاولةً من الملك الراحل لإعادة بناء المؤسّسة العسكرية المغربية وترميم التصدّعات والشروخ التي خلفتها المحاولتان في صفوفها، خصوصاً بعد إعدام واعتقال عسكريين متورطين فيهما. لكن في الآن ذاته، كان القرارُ تعبيراً عن استعداد المغرب لأن يكون جزءاً من مقطعٍ نادرٍ في التضامن العربي لم يتكرّر بعد ذلك للأسف.
قاد التجريدة المغربية الجنرال الراحل عبد السلام الصَّفْرِيوي. وضمّت حوالي ستة آلاف مقاتل، من خيرة الجنود والضباط تكويناً وجاهزيةً وقتاليةً. كما كانت معزّزةً بدبّابات وطائرات ومقاتلات حربية نوعية في حينها. وصلت التجريدة إلى الجبهة السورية قبل الحرب بحوالي أربعة أشهر، حتى يتسنّى لها التأقلم بما يكفي مع التضاريس والمواقع العسكرية التي رابطت فيها قريباً من الجولان المحتل، والتنسيق الميداني مع الجيش السوري.
خاضت التجريدة معارك مشرّفة في مدينة القنيطرة وجبل الشيخ، ونجحت في التقدّم نحو مرتفعات الجولان. وكبّدت قوات العدو الصهيوني خسائر فادحة في الأرواح والعتاد. وتمكّنت من إحباط خططه في التقدّم داخل الأراضي السورية. غير أن ما حققه الجنود المغاربة على الأرض كان بحاجةٍ لغطاءٍ جويٍّ من الطيران الحربي السوري. لكن شيئاً من ذلك لم يقع، لأسباب لا تزال غير مفهومة. وقد أتاح ذلك للقوات الإسرائيلية استعادةَ المبادرة ومحاصرة التجريدة المغربية التي فقدت في غضون ذلك عدداً كبيراً من أفرادها، أبرزهم العقيد عبد القادر العلّام الذي استشهد في غارة إسرائيلية على أحد المواقع. ولولا تدخّل وحدات عراقية لفكّ الحصار عن الجنود المغاربة لكانت الخسائر أفدح في صفوفهم، ذلك أن تراجع القوات السورية وانسحابها من خطّ المواجهة بشكلٍ مفاجئ وغير مبرّر مكَّنا القوات الإسرائيلية من إعادة رصّ صفوفها والاحتفاظ بمعظم أجزاء هضبة الجولان، على الرغم من تضحيات الجنود السوريين والمغاربة والعراقيين والأردنيين والسعوديين.
لم يكن ما حدث للتجريدة المغربية، وغيرها من القوات العربية الأخرى، على الجبهة السورية، بعيداً عن الحسابات السياسية الإقليمية والدولية التي حكمت على حرب أكتوبر، منذ بدايتها، بأن تكون محدودةً لا حرب تحرير شاملة للأراضي العربية المحتلة. لكن، على الرغم من المآل الذي انتهت إليه المواجهات على الجبهتين السورية والمصرية، يحتفظ أرشيف تقاريرَ حربيةٍ ومراسلاتٍ صحافيةٍ، آنذاك، ببعض ما كتب عن شجاعة الجنود المغاربة وبطولاتهم وتضحياتهم مثل أشقّائهم في القوات العربية الأخرى التي شاركت في الحرب. وتكريماً لهم أطلق اسم ''التجريدة المغربية'' على إحدى ساحات العاصمة السورية. وخلّدها الأدب المغربي برواية ''رفقةُ السلاح والقمر'' (1976) للكاتب مبارك ربيع.
اليوم، وفيما تواصل قوات الاحتلال الصهيوني عدوانها الوحشي على الشعب الفلسطيني في غزّة، ويتوطَّدُ التطبيع المغربي الإسرائيلي، يرقد عشرات الجنود المغاربة في مقبرةٍ في دمشق، سقطوا دفاعاً عن فلسطين والجولان المحتليْن، يُذكّرون بحقيقة الصراع في ماضيه وحاضره ومستقبله.