حركات احتجاجية واستضعاف للدولة في تونس
وقّعت الحكومة التونسية، قبل أيام، على اتفاقية مع "تنسيقية الكامور"، وهي مجموعة شبان قادوا واحدا من أطول التحرّكات الاحتجاجية في البلاد بعد الثورة. والكامور منطقة صحراوية في محافظة تطاوين (أقصى الجنوب) التي تجاور ليبيا، وتعد من المناطق النادرة التي يتوفر فيها مخزون نفط في تونس. وقد عمد آلاف من الشباب، منذ أكثر من أربع سنوات، إلى تنظيم مظاهرات واعتصامات وصلت إلى اقتحام حقول النفط وإغلاقها منذ شهر مارس/ آذار 2020. وتقوم أنشطة محافظة تطاوين التي لا تتساقط فيها الأمطار إلا قليلا على استخراج النفط وتربية الإبل والفلاحة التقليدية، ومن الأوهام الظن أنها منطقة تعوم على بحيرة نفط، فإنتاج تونس من النفط محدود أصلا، على خلاف جارتيها، الجزائر وليبيا.
أكثر من أربع سنوات تقريبا، ظل الشباب مرابضا في مختلف المنشآت الحيوية في المحافظة، ملتفا حول قياداتٍ محليةٍ رفضت كل أشكال استغلال تحرّكاتها، بل وجهت انتقاداتٍ حادّة إلى الاتحاد العام التونسي للشغل ومنظمات وطنية أخرى، واختارت الاستقلالية، على الرغم من شبهاتٍ ما زالت تلاحقها بشأن ميول سياسية لبعضهم. اضطرّت الحكومة، في أكثر من مرة، إلى توقيع اتفاقيات مع "تنسيقة الكامور" هذه. ومع ذلك، وجدت نفسها أيضا "مرغمة" على التنكّر لها ولو بعد حين. وكانت الحكومات، في كل مرة، تذهب مضطرّة، وتوقّع الاتفاق لتهدئة الأوضاع المتأججة، وهي تعلم أن مواردها وإمكاناتها لا تسمح بذلك. كانت تدرك أنها لن تعمّر طويلا. لذلك كانت توقّع حتى تشتري سلمها وإطفاء الحرائق حتى لا تلتهمها. ظلت الحكومات تتعاقب، فتجد أمامها كل مرة، وهي تستلم مهامها وملفاتها، اتفاقياتٍ غير مطبقة، وتنسيقيات احتجاج مصرّة على تنفيذ ما تم التوقيع عليه بينها وبين الدولة.
ملّ شباب الكامور الانتظار، وغضب لهذا التنكر، فقصد المنطقة النفطية وحاصرها.. وكانت المنطقة تحت حماية الجيش الذي تراجع، واختار عدم الاصطدام مع هؤلاء الشباب الذين واصلوا الزحف على الحقول النفطية، وأغلقوا الأنبوب المركزي الذي ينساب منه النفط. تواصل إغلاق الحقول أشهرا، وقدّرت الخسائر بعشرات مليارات الدنانير التونسية، في وقتٍ تعرف فيها المالية العمومية أزمة خانقة، لم يتردّد مختصون بنعتها بحافة الإفلاس تقريبا.
أنشطة محافظة تطاوين التي لا تتساقط فيها الأمطار إلا قليلا تقوم على استخراج النفط وتربية الإبل والفلاحة التقليدية
أخيرا وقّعت الحكومة الاتفاق، واستجابت تقريبا لكثير مما طلبه الشباب: مبالغ وضعت في صندوق للنهوض بالمنطقة، شركات تنمية محلية، توظيف نحو 1500 شاب في الشركات الأجنبية في المنطقة النفطية وغيرها، ثم غادر المحتجون الحقول النفطية، تاركين الشركات الأجنبية تستأنف عملها. وقد سوّق رئيس الحكومة، هشام المشيشي، الاتفاق للرأي العام مكسبا لحكومته. وما إن تم ذلك، حتى اندلعت في محافظات في الشمال الغربي والوسط الغربي والجنوب تحرّكات احتجاجية، طالبت بتحقيق مطالب لا تختلف، في جوهرها، عن مطالب منطقة الكامور (تطاوين): تحسين البنية التحتية، تحديث الخدمات، وتشغيل الشباب العاطل عن العمل.
أغلق شباب الكامور الأنبوب المركزي الذي ينساب منه النفط. وتواصل إغلاق الحقول أشهرا، وقدّرت الخسائر بعشرات مليارات الدنانير التونسية
تطرح هذه التطورات أسئلةً لا تعني تونس فحسب، بل الدول العربية في علاقاتها بمختلف محافظاتها ومناطقها. وقد نشأت معظمها مفرطة المركزية، حيث استحوذت العاصمة والمدن الكبرى، لأسباب عديدة، منها السياسية والتاريخية، على جل التمويلات العمومية والمنشآت والخدمات. يمكن تعميم هذا النموذج على البلدان العربية التي ينقسم فيها المجال، بالمعنيين الجغرافي والإداري، إلى مناطق محظوظة تغدق عليها الدولة، المفرطة في المركزية، ما تشاء، ووفق مزاج الحكام، وأخرى محرومة لا يلتف إليها الحكام إلا نادرا. وقد أحدث ذلك شرخا عميقا بين أبناء الوطن الواحد، وثمّة إحساسٌ ينتاب عديدين، حقا أو وهماً، أنهم مواطنون من درجة ثانية، مقارنة بأبناء المناطق المحظوظة. وقد انتظر التونسيون، بعد الثورة التي انطلقت من المناطق الداخلية المحرومة، أن تتغير الأمور، ولو نسبيا، حتى تشعر تلك المناطق الداخلية بشيءٍ من الإنصاف والاعتراف، غير أن المنجز، بعد مضي عشر سنوات، وعلى الرغم مما نصّ عليه الدستور من ضرورة التمييز الإيجابي لفائدة المناطق المحرومة، منذ دولة الاستقلال وحتى ما قبلها، ظل مخيباً للآمال.
لا يليق بدولة المواطنين القوية والعادلة أن تذهب إلى التفاوض مع مناطقها وهي مذلولة
اضطرّت الدولة إلى أن تتنازل لفائدة الاعتصام في الكامور. لبّت مطالب يقول مختصون إنها لن تُحدث تنميةً حقيقية في المنطقة، فالأرجح أن ذلك كان ريعا يُدفع تحت الضغط والابتزاز، لشراء استقرار حكومة، وليس لإحداث تنميةٍ حقيقية، فالمشاريع التي تم الاتفاق بشأنها ليست توزيعا عادلا للثورة، إنما توزيع للريع، تقلص بحكم وقف إنتاج النفط والفوسفات، وما أصاب القطاع السياحي من شللٍ منذ حلول الجائحة التي ضربت القطاع بشكل موجع.
لا يليق بدولة المواطنين القوية والعادلة أن تذهب إلى التفاوض مع مناطقها وهي مذلولة. الأصوب لمعالجة هذه المظلومية التاريخية أن تعمد الى تغيير المنوال التنموي، من أجل عدالة بين المناطق، وتقاسم ثروات البلاد وتوزيع عوائدها، من أجل تنميةٍ عادلةٍ ومستديمةٍ تشمل الجميع. الاستمرار في إذلال الدولة وإجبارها على توقيع اتفاقياتٍ مع المحتجين، وإنْ لتلبية مطالب مشروعة، سيؤدّي، لا محالة، إلى إضعاف الدولة، ولو على المدى البعيد، علاوة على أنه لن يتيح تنميةً مستدامةً في تلك المناطق، بل قد يحرض على تمزيق وحدة المجتمع وإلهاب مشاعر الجهوية والمناطقية البغيضة. ربما سيعتصم بعضهم قريبا، غالقا السدود، بحجة أنها ملك منطقتهم وحدهم؟