حلوى إيطالية
غبطتُ نفسي في يوم من أيام الطفولة، لقدرتي على التخلص من المواقف المحرجة، وكان ذلك مشجّعاً لي بأنني سأستمر كذلك حتى أكبر، ولكن ذلك لم يحدُث، ويبدو أن الاختراع ظل اختراعي الوحيد، حين أعلن معلم اللغة العربية عن إقامة مبارزة شعرية، وعلينا أن نحفظ أبياتا من الشعر للمثول أمام الناظرة وضيوفها في فصلنا. وهكذا حفظت القليل الذي لم يزد عن أبيات الشعر المقرّرة وأبياتا التقطتها من والدي. وحين كان يوم المبارزة، ووقفت لأبارز زميلة تنافسني، وكان علي أن ألتقط منها حرفا في عجز بيت الشعر، لكي أبدأ به بيتا آخر، وهنا تفتحت قريحتي بتأليف بيتٍ من بنات أفكاري، ألقيته بسرعة واجتزت المبارزة بنجاح. ولم يجرؤ معلمي عن سؤالي عن صاحب بيت الشعر، لكي لا يبدو بمظهر غير العارف، بل هزّ رأسه إعجابا، وأصبح يُدخل بيت الشعر في المبارزات التي يقيمها.
يبدو أن الارتجال أو الخطأ قد يفيد، وربما كان سببا في الشهرة في بعض الأحيان، حيث تفيد روايات، بعد وفاة مخترع الحلوى الإيطالية "التيراميسو"، أنه اخترعها نتيجة خطأ في الطبخ ارتكبه هو أو زوجته في مطبخ بيتهما، ولكن ذلك الخطأ أدّى إلى أن تنتشر هذه الحلوى في العالم وإن راجت روايات أخرى حول أصلها وسبب تسميتها.
أحسب أن زوجة الشيف، أدو كامبيول، الذي توفي أخيرا عن عمر 93 عاما، قد وقعت في خطأ أتوقعه، وربما هو السبب بأني لست من عشاق هذه الحلوى، وهذا دليلٌ على أن شهرة الشيء لا تعني جودته ولذّته في نظر الجميع، مثل هوس بعضهم بموضة الأحذية ذات الأربطة. وأنا أكره أن أرتدي حذاء برباط مهما كان جماله، وأكره الشوكولاتة السائلة التي تدهن في الخبز، على الرغم من رواجها على موائد الفطور السريعة. ولذلك حسب توقعي/ الخطأ الذي وقعت فيه زوجة الطبّاخ أنها قد غمست شرائح البسكويت بالقهوة السريعة الذوبان (نيسكافيه)، ما أفقدها هشاشتها، وما يجعلك تشعر وكأنك تتناول قطعا من الخبز المبلول. ومما شاع عن خطأ الشيف الشهير الراحل أنه كان يعتزم إعداد صنف معتاد، لكنه فشل على غير العادة، فقرّر ألا يلقي بالمكوّنات، وأضاف إليها الجبن السائل، وألقى المعجون فوق أصابع البسكويت المبلّلة، وأصبحنا مطالبين بالتهام هذا الصنف العجيب، المغطّى بالشوكولاتة المبشورة.
المهم أن هذه الحلوى أصبحت شهيرة وجابت العالم، وتدلّ على رقي سيدة البيت، حين تقدمها لضيوفها، سيدة البيت العربية التي تخلت عن الحلويات الشرقية المعروفة التي تربّينا عليها، على الرغم من أن لبعضها قصصا شائقة، ولم تحظ بشهرة، فلم تسأل نفسك لمَ سمّيت حلوى "أم علي" بهذا الاسم، وهي تشبه حلوى التيراميسو الإيطالية التي صنعت بسبب خطأ فادح، فأساس مكوناتها فتات الخبز الرقيق المبلل بالحليب. وهناك حلوى "أصابع زينب"، لكننا مصابون بالطبع بعقدة الخواجا، وسمحنا لهذه الحلوى الإيطالية أن تكون على قائمة طلباتنا في المقاهي مع القهوة الإيطالية، واحتلت واجهة طاولات الضيافة في بيوتنا. وإذا كنا ندين للمطبخ الإيطالي بشيء، فعلينا أن ندين له بعشقنا أنواع المعكرونة المختلفة التي تسبّب زيادة الوزن، وحيث يصنّف الشعب الإيطالي من أكثر الشعوب بدانة. وإن كنا ندين لهم باكتشاف حلوى التيراميسو، فهناك من ذهب إلى أن مخترعها ما زال مجهولا، وقد أراد أن يخلد ذكر مدينته، وليس اسمه، فقدّمها للحاكم المشهور بنهمه للطعام، حاكم مقاطعة توسكانا، كوسيمو دي ميديتشي الثالث، والذي زار مدينة سيينا الواقعة في وسط إقليم توسكانا في إيطاليا في أواخر القرن السابع عشر. وهكذا خلدت المدينة، وتذكّرها الحاكم، بسبب تلك الحلوى، وإن لم يجرؤ على انتقاد مذاقها، مثلما حدث مع معلم اللغة العربية تماما.