حملةٌ لتطهير الأدب
لا بدّ وأن لدينا الكثير لنقوله، نحن العرب، في موضوع الرقابة على النصوص الأدبية، القديمة والحديثة على السواء، أو في قضايا الحظر والمنع والحذف ورفع دعاوى وشكاوى تحت مسمّيات مختلفة، باسم الدفاع عن الأخلاقيات والدين والتقاليد والأعراف. لكن، في المقابل، ثمّة ميلٌ مستجدّ ومتفاقم اليوم في المجتمعات الغربية إلى ممارسة عملية "تطهير لفظي" إذا صحّ التعبير، على نصوصٍ أدبيةٍ كلاسيكيةٍ من أجل جعلها "لائقة سياسيا"، بحذف العبارات والألفاظ التي تُعتبر، بمنظار العصر الحالي، عنصرية ومسيئة.
كمثال، وقّع طلابٌ من جامعة كونكورديا في مدينة مونتريال (كندا)، عريضة احتجاج ضد أستاذتهم لأنها أقرّت للقراءة عنوانا هو "عبيد أميركا البيض" (بيار فاليير، 1968) حيث يروي الكاتب سيرته الذاتية، منتهيا إلى هيمنة الناطقين بالإنكليزية على الناطقين بالفرنسية، وهو ما اضطرّها إلى التراجع مع تقديم اعتذار، في حين أوضحت الجامعة في بيان أن "لا مكان للعنصرية في كونكورديا"!
وفي 23 مارس/ آذار الجاري، أعلنت جمعيةُ المكتبات الأميركية في الولايات المتحدة أن طلبات سحب بعض الكتب الأدبية (2571 عنوانا) من المكتبات العامّة أو إخضاعها للرقابة قد ضربت رقما قياسيا، إذ بلغ عددُها 1269 طلبا، مع الإشارة إلى أن 86% من الكتب المستهدَفة تنتمي إلى أدب اليافعين، وأكثر من نصف هذه الأخيرة مرتبطٌ بالكتب المدرجة في برامج المدارس أو المتوفرة في مكتباتها. من الأعمال التي تتعرّض لها الحملةُ رواية الأميركية توني موريسون (نوبل للأدب 1993)، "المحبوبة"، الحائزة جائزة بوليتزر عام 1988، والتي تروي قصة امرأة سوداء عاشت العبودية، وقرّرت أن تقتل طفلها لتجنّبه المصير نفسه. أما الحجّة، فهي أن مثل هذه الأعمال ستُشعر القرّاء البيض بالسوء، وبأنهم من قامعي الأقليات (المعرّضة للتمييز العرقي والجندري).
على صعيد آخر، دار سجالٌ أسال وما زال يُسيل الكثير من الحبر عبر العالم، ويتعلّق بموضوع التدخّل في بعض الأعمال الأدبية الكلاسيكية وإعادة كتابة بعض عباراتها. هكذا أعلنت دار النشر البريطانية، بوفّين، أنها عمدت إلى "إعادة كتابة جذرية" لعدد من كلاسيكيّاتها الموجهة إلى الأطفال واليافعين، ملغيةً العبارات المسيئة المتعلّقة بالوزن، الصحة العقلية، العنف، النوع، أو الانتماء الإثني. من تلك الأعمال، على سبيل المثال، روايات الكاتب روالد داهل، صاحب رواية "تشارلي ومعمل الشوكولا"، حيث تم حذف كلمة سمين. وكذا فعلت دار نشر إيان فليمينغ، إذ حذفت كلمة "عبد" من روايات جيمس بوند. هذا، من دون إغفال السجال الذي انطلق في فرنسا، بعد أن وافقت حفيدة أغاتا كريستي على تبديل عنوان الترجمة الفرنسية للرواية الشهيرة التي بيع منها نحو مائة مليون نسخة، من "عشرة عبيد صغار" إلى "كانوا عشرة"، وذلك برغم أن الكاتبة كانت قد وافقت ناشرها الأميركي عام 1940 على تبديل العنوان، وحذف كلمة "عبد" من العمل كله.
أمام كل ما أوردناه، يطرح سؤالٌ نفسه: هل يحقّ لنا المساس بمحتوى النصوص الكلاسيكية الصادرة في حقبٍ سابقة اتصفت بما اتصفت به من أفكار ومبادئ وأخلاقيات، من دون أخذ موافقة الكاتب، أو بعد مماته؟ وهل أنّ تبديل بعض الكلمات الجارحة التي اتضّح أذاها وبات استعمالها منفِّرا ومستنكَرا، مستحسنٌ ومفيدٌ وذو أثر فعليّ على النفوس والعقليات؟ المتخصّصون في أدب الأطفال واليافعين ينقسمون حول الموضوع، فمنهم من يرى إلى ضرورة الأمر كي لا يتشرّب الأولادُ أفكارا سلبية يعيدون إنتاجها، في حين يميل الآخرون إلى وجوب تركها على حالها لأنها تشكّل مناسبة للإضاءة على تلك المواضيع وتطوير الحسّ النقدي لدى الأطفال. أنا أكثر ميلا إلى الخيار الثاني، من حيث ضرورة عدم المساس بأي نصٍّ أدبي، أيا يكن محتواه، عملا بمبدأ أن الأدب ابن عصره وبيئته ومرآة أفكار زمنه. فهل المطلوب مثلا إعادة كتابة التاريخ ومحو السيئ فيه، أم دراسته ووعيه بغية الاتّعاظ منه؟