حين أحببت من أحبّوا كرة القدم
يبدو أن وقت الاعتراف قد حان أمام البطولة العربية المشرّفة في كأس العالم في قطر، ولم يعد لائقاً ألّا أكتب عن كرة القدم، الساحرة المستديرة التي لم أفهم قواعدها يوماً وما زلت، لكنّي أحببت من أحبّوها وأحببت طقوس الحفاوة بالفوز وفرحة البسطاء وتشجيعهم ولهفتهم، وكأنّ القيامة سوف تقوم حين يتعجّلون إنهاء أمور حياتهم وإغلاق أبواب رزقهم في سبيل الجلوس بمواجهة الشاشة ومتابعة مباراة لفريق مفضل.
في ثمانينيات القرن الماضي، لمع نجم اللاعب الأرجنتيني، دييغو مارادونا، وكنت مرّة في القاهرة وحيث اجتمع صبية عائلتنا الممتدّة في بيتنا لمتابعة المباريات والحديث عن بطولته الخارقة، وكنت أسمع صياحهم الذي يصل إليّ من غرفة داخلية بأصوات تقفز نحو الرجولة، وحين بدأ قلبي يدقّ نحو أحدهم في صمت، أحببت ما أحبَّ وبدأت أتتبع أخبار ذلك الخارق الذي هتف باسمه.
وفي حارتنا، وحين بدأ أخي الذي يصغرني بعام يتعلق بهذه الساحرة، أصبح أمام بيتنا ملعب بلا حدود سوى خطوط وهمية لا تكاد تُرى، صنعها الفتية والشبان الذين بالكاد تجاوزوا العشرين من أعمارهم بأقدامهم، وباتت الأرض أمام البيت مسطّحة ونظيفة وخالية من قاذورات الشوارع المعتادة، وأصبحت وكأنها رأسٌ حليقٌ لن يكلف صاحبه جهداً، فسوف تنزلق فوقه المياه والصابون بكلّ بساطة. وهكذا كان يكفي أن يخرج أخي حاملاً الكرة التي أهداها له والدي بمناسبة نجاحه في المرحلة الإعدادية، ويقف أمام البيت، حتى يبزغ الفتية والشبان وكأنّهم قد انبثقوا من العدم، فيلتفون حوله، وتبدأ القرعة لاختيار اللاعبين، وتبدأ المباريات التي كان يؤدّي فيها أخي دور حارس المرمى، وحيث لم يدرك المصيدة التي يتبعها الشباب الذين يديرون الكرة بين أقدامهم، وهي أنّهم كانوا يوهمونه بأنّه حارس مرمى خارق، فلا هدف يجتاز شباكاً وهمية يقف أمامها. والسبب أنّ كلّ واحد منهم يريد أن يتقرّب من أخي من أجل شقيقته الحسناء، وهكذا مرّت سنوات بحيلة جميلة، حوّلت أخي اليوم إلى خبير بأحكام اللعبة وقوانينها.
كنت أحبّ أن أتابع عبر شاشة التلفاز وجوه الجماهير التي جاءت من جميع أنحاء الأرض، وأتابع تركيز الكاميرات على حبيبة أو صديقة لأحد اللاعبين، وهي تهتف باسمه وتحمل شعار بلاده، ولكنّي اليوم أفاجأ، وفي المونديال المقام في قطر بأنّ الأمهات قد تصدّرن الشاشات بدموعهن وتعبيرات وجوهن ولهاث ألسنتهن الداعية. وهكذا اكتشف ذلك الانقلاب الكبير بين مونديالٍ يقام على أرض عربية وآخر يقام في بلاد الفرنجة مثلاً، فها هو الطابع العربي المحبّب الذي اعتدنا عليه، حيث الأم البسيطة التي تدعو لولدها بالتوفيق أينما حلّ، وإن كانت لا تدري طبيعة عمله بالأساس، لكنّه ابن قلبها، ومن الطبيعي أن تدعو له وتحوطه بالمعوذتين وتعيذه من أعين الحاسدين والحاسدات. وأم لاعب كرة القدم بالذات لا تتوقف عن تلاوة "آية السدّ" كي يُحفظ مرماه وتُعمى أعين الخصم عنه.
أبهرتنا أمهات أبطال المغرب في فوزهم أخيراً، مثل أم اللاعب أشرف حكيمي، التي تنطق ملامحها بقصة كفاح عظيمة. أما أمّ اللاعب يوسف النصيري فصورتها احتفالاً بفوز ابنها تعد أيقونةً ذات دلالة عميقة للتحفيز المعنوي العظيم، والذي تفتقر له الفرق الغربية التي تطفح بالأنانية وتلاشي مفهوم الأسرة ودفئها إذ غابت الأمهات من مدرّجاتهم.
أمام أبطال فريق المغرب، وصور البرّ والحبّ، تتراجع صورة اللاعب كريستيانو رونالدو، التي كانت تمر عليها الكاميرا، ثم تختطف صورة لرفيقته جورجينا، وما بين الغمز واللمز توارت الصورتان، لتبقى صور الأمهات الصادقات الطيبات البسيطات، اللواتي أعدن لي ذكريات بعيدة لابني النائي عنّي بغربة قسرية، وكنت أجفّف عرقه، حين يعود من مباراة ساخنة مع فريق الحارة المجاورة. أما حين كانت تُكسر ساقه في مرات كثيرة، بسبب حنق منافسٍ من مهارته، فتلك فصول أخرى من الرعاية والتغذية، لكي يعود ليلعب لعبة يحبّها وأحببتها من أجله، ولم أفهم قوانينها.