خرج الصدر .. دخل المالكي
وكأنها لعبة "حية ودرج"، التي كانت من متعنا الصيفية، نلعبها صغارا، وسط اشتداد الحر وغياب وسائل الترفيه الأخرى. يخرج فلان ويدخل آخر، ويخرج آخر ويعود فلان للدخول... هذه، ببساطة، نظرة موجزة على واقع العملية السياسية في العراق منذ الغزو الأميركي له عام 2003، يوم فصّل عمليةً سياسية على مقاسه، ومقاس من أتى بهم من المنافي أو الذين قبلوا أن يكونوا خدما له، عملية تلفظ أنفاسها الأخيرة، رغم كل عمليات الصعق من هذا الطرف أو ذاك، لبث الحياة فيها.
أعلن زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، وهو صاحب أكبر كتلة برلمانية في انتخابات 10 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، استقالة أعضاء كتلته، ومقاطعته العملية السياسية وعدم الاشتراك فيها، ما دامت تضم الفاسدين. وهذا مصطلحٌ لا يعرف فكّ شيفرته سوى الصدر والراسخين في العملية السياسية التي تشهد كل التفاصيل والوقائع أنهم كلهم فاسدون، كل من اشترك أو شارك فيها واستمر منذ 2003.
جاءت استقالة النواب بعد قرابة ثمانية أشهر من الشدّ والجذب اللذين شهدتهما العملية السياسية وأطرافها عقب الانتخابات، حيث فشلت تلك القوى في تشكيل حكومة، بعد أن أصرّ الصدر على أن تكون حكومة أغلبية وطنية، وليست توافقية كما جرت العادة، فاصطدم بحلفاء الأمس شركاء المذهب من قوى شيعية رأت في هذه الدعوة انقلابا على مفهوم أساسي من مفاهيم العملية السياسية، أن يكون اختيار رئيس الوزراء بالتوافق بين أطراف البيت الشيعي. وقد عملت القوى الشيعية الأخرى، وفي مقدّمتها ائتلاف دولة القانون، برئاسة نوري المالكي، رئيس الوزراء الأسبق لدورتين انتخابيتين، على إفشال مسعى الصدر، خصوصا وأن الأخير تحالف سريعا مع تحالف السيادة السني وتحالف قوى كردية بزعامة الحزب الديمقراطي الكردستاني، فشكلوا كتلة "إنقاذ وطن". ثم نجحت القوى الشيعية الأخرى في إفشال مسعى الصدر في تشكيل حكومة الأغلبية، فما كان منه إلا أن أعلن استقالة نوابه ومقاطعته العملية السياسية، ليبرُز نوري المالكي، من جديد، مرشّحا لقوى الإطار التنسيقي، المعروفة بولائها لإيران، ليكون رئيسا للوزراء للحكومة الجديدة، وما بين الرجلين ما صنع الحدّاد.
ذراع المالكي الطويلة والدعم اللامحدود الذي يجده من إيران أسهما، بشكل كبير، في إحباط مخطّط الصدر للتخلص من المالكي والخزعلي
عندما استلم المالكي رئاسة حكومته الأولى 2006-2010، كان من أول ما فعل ضربه المليشيات التابعة لمقتدى الصدر، فشنّ عليهم ما عرفت وقتها "صولة الفرسان" التي سعى منها إلى قصقصة أجنحة الصدر القوية، وخصوصا في محافظة البصرة، عصب النفط العراقي. ولا يبدو أن الصدر قادر على نسيان هذا أو تناسيه، حتى إذا ما حانت الفرصة أمامه للانقضاض على المالكي لم يتأخر، وعمل، عقب فوز كتلته في الانتخابات، على الاشتراط على قوى الإطار التنسيقي أن تستبعد المالكي، ومعه زعيم عصائب أهل الحق، قيس الخزعلي، من أي مفاوضاتٍ من أجل التحالف بين التيار الصدري والإطار التنسيقي. غير أن ذراع المالكي الطويلة والدعم اللامحدود الذي يجده من إيران وأذرعها في العراق، وفي مقدمتها القضاء، أسهما، بشكل كبير، في إحباط مخطّط الصدر للتخلص من المالكي والخزعلي إلى غير رجعة.
ولكن، هل ستسمح استقالة نواب الصدر من البرلمان للمالكي بالعودة إلى رئاسة الحكومة، كما تبشّر بذلك دوائر وشخصياتٌ مقرّبة منه؟ لا يبدو الأمر بهذه السهولة، فلعبة "حية وردج" السياسية العراقية حاملة مفاجآت وألغازا كثيرة، فهناك، على ما يبدو، طبخة صدْرية في مقابل ما يعدّه المطبخ المقابل، فاستقالة نواب التيار الصدري ستبقى معلقةً إلى حين صدور الأمر الديواني بقبولها بحسب قانونيين، ناهيك عن أن أي حكومة تُشكّل من دون التيار الصدري ستبقى هشّة قابلة للموت السريري، متى ما أراد الصدر وتياره الشعبي العريض أن يقتلها بمجرّد نزولهم إلى الشارع.
بعد أن كانت الصراعات السياسية ثلاثية الرؤوس "شيعية – سنية – كردية"، ثم ثنائية "شيعية – كردية"، تحوّلت اليوم إلى أحادية، "شيعية – شيعية"
وجود صراع الضد النوعي داخل العملية السياسية في العراق تطوّرٌ ملفت، فبعد أن كانت الصراعات السياسية ثلاثية الرؤوس "شيعية – سنية – كردية"، ثم ثنائية "شيعية – كردية"، تحوّلت اليوم إلى أحادية، "شيعية – شيعية". وهذا تحوّل يمكن قراءته أنه سيشكّل واقعا كارثيا للعراق خلال العقد المقبل، خصوصا أن المتصارعيْن هذه المرّة مدجّجان بالسلاح والنفوذ، فهل سيدخل المالكي بعد خروج الصدر، أم أن خروج الصدر مؤقت وجزء من "فخّ" معد سلفا للإيقاع ببقايا "الإطار التنسيقي"، من خلال تحريك الصدر الشارع والانقضاض على حكومةٍ يشكلها "الإطار" للتخلص من القوى المناهضة له بطريقة شعبية ذكية، من دون أن يتورّط بها هو شخصيا أو حتى تياره؟
يبقى الفيصل في ما يمكن أن تسفر عنه العملية السياسية في العراق ليس رهينا بما قد تصل إليه أطراف اللعبة السياسية، وإنما في ما يمكن أن تسفر عنه تفاهمات دول الإقليم، فالعراق ساحة مفتوحة للصراع الإقليمي، وحتى الدولي، وهو غالبا ما يذهب ضحية تلك الصراعات، أو حتى التفاهمات، التي ما إن تحصل حتى تكون على حساب العراق، في غياب أي حكومةٍ عراقيةٍ قويةٍ قادرة على أن تواجه هذا الواقع الإقليمي المتفجّر والمتشظّي.