خيبات متتالية للنظام في تونس
كان النظام في تونس يمنّي نفسه أن تسعفه الأقدار في الأسابيع الأخيرة، علّها تمنح مزاجا رائقا للتونسيين، وتسهم في جعل المناخ الانتخابي دافعا لتوجههم إلى صناديق الاقتراع في يومٍ اختاره متزامنا مع الاحتفاء بعيد الثورة الثاني عشر. وقد شكل هذا توظيفا سياسيا سافرا لمناسبة مهمة في تاريخ التونسيين. وكان قيس سعيّد قد عمد إلى تغيير عيد الثورة التي كان يحتفي بها التونسيون نحو عقد في تزامن مع رحيل بن علي، أي يوم 14 يناير/ كانون الثاني من كل سنة، وإذا به يعلن من مدينة سيدي بوزيد بالذات أن عيد الثورة يناسب الـ17 من ديسمبر/ كانون الأول، أي يوم أشعل الراحل محمد البوعزيزي النار في جسمه.
ومع أن هذا الاختيار الدقيق لتاريخ الانتخابات التشريعية يتمسّح على أعتاب هذه الذكرى، خصوصا وقد تزامنت مع عطلة الشتاء المدرسية والجامعية، إلا أنه لم يجلب الناخبين، بل كانت له آثار عكسية تماما، وهي التي سجّلت نسبة غير مسبوقة في تاريخ الانتخابات التشريعية منذ استقلال البلاد، فحسب التصريحات الأولية لهيئة الانتخابات، لن تتجاوز النسبة 9%.
كانت النتيجة منطقية منتظرة، بالنظر إلى حجم الكوارث السياسية التي ارتكبها الرئيس بعد انقلابه على الدستور وحل مجلس النواب وإصدار مراسيم نصبّته حاكما بأمره، غير أن بعض مناصريه كانوا ينتظرون حصول معجزة، أو على الأقل كانوا يمنّون أنفسهم أن تقترب نسبة الاقتراع من التي حصلت عند الاستفتاء على الدستور، أي ما يناهز 30%، لكن ذلك لم يحدُث.
كان عدد التونسيين الذين اصطفّوا، في الأسابيع الأخيرة، في طوابير، وهم يبحثون عن الخبز والحليب ومواد غذائية مفقودة أكثر ممن توجهوا إلى صناديق الاقتراع. هواجسهم اليومية وضنك العيش شغلتهم عن انتخاباتٍ لم تكن تعنيهم أصلا.
كان النظام يبحث عن إنجاز يجيّره في الأسبوع الأخير للحملة الانتخابية: سافر سعيّد إلى السعودية، ليحضر القمة الصينية العربية، ولكنه لم يستطع أن يسوّق شيئا سوى صور تجمعه مع نظرائه، وخطاب إنشائي عن فتح الطرقات. لم تقدّم المملكة (ولا الصين) وعودا علنية بالمساهمة في حل الأزمة المالية الحادّة، وهي لن تفعل ذلك، فالمهم لأصدقاء عديدين للرئيس أن ما كانوا يرغبون فيه قد حدث، إنهاء التجربة الديمقراطية. البقية لا تعنيهم، حتى لو ساق سعيّد البلاد إلى انهيارٍ نراه وشيكا.
سيكون للرئيس التونسي برلمان على مقاسه، وسيردّد له سرديّته أن التونسيين في "علو شاهق"، حتى ولو لامسوا الدرك الأسفل من الجحيم
بعد ذلك، طار إلى الولايات المتحدة، وعلقت صحف البروباغندا بأن الرئيس يسفّه أطروحة العزلة الدولية، وهو يحقق إنجازات غير مسبوقة على صعيد خارجي، خصوصا بعد أن "افتك انعقاد القمة الفرنكوفونية في مدينة جربة" (الكلام للرئيس). حضر القمة الأميركية الأفريقية، ودافع باستماتة، حسب الصحف الأميركية، عن شرعية انقلابه، ورفضه التدخل الأجنبي في الشأن التونسي. كان خطابه السيادوي غير منسجم مع الطلبات التي تقدّمها حكومة بلاده إلى صندوق النقد الدولي وهي على حافّة الإفلاس. وفي أثناء زيارة الرئيس تلك، يقرّر الصندوق تأجيل النظر في ملف منح القرض الذي جرى الاتفاق المبدئي عليه قبل أشهر، وكان من المفروض أن يكون يوم 19 ديسمبر/ كانون الأول، أي بعد يومين من الانتخابات. رحّل الصندوق الأمر الى أجل غير مسمّى. في اليوم نفسه، تلغي الولايات المتحدة، للمرّة الثانية على التوالي، دعوة تونس الى قمة الديمقراطية التي تنعقد في أواخر شهر مارس/ آذار المقبل. ولأن المصائب لا تحلّ بالنظام فرادى، رفض الاتحاد الأوروبي تقريبا، في اليوم نفسه، إرسال بعثة مراقبة للانتخابات التشريعية، على خلاف ما دأب عليه خلال العشرية التي تلت الثورة، واستند في ذلك إلى موقف المحكمة الأفريقية ولجنة البندقية اللتين رأتا في المسار الذي سنّه الرئيس سعيّد نسفا للبناء الديمقراطي، وانتهاكا غير مقبول للدستور الضامن الشرعي الوحيد للديمقراطية الناشئة.
لن يستطيع الرئيس أن يقنع شعبه والعالم أن الشعب التونسي فوّض أمره له، و يعتبره ناطقا باسمه وإرداته. ها هو الشعب نفسه يعلن، في عزوفه، أنه غير معني أصلا بهذا العبث الذي يبدعه الرئيس كل يوم. ولكن الرسالة لن تصل إليه، وسيرى في هذا العزوف مؤامرة حاكتها قوى داخلية تأتمر بجهات أجنبية. كان هذا تعليقه على النسبة المتدنية من الإقبال على الاستفتاء على دستوره. سيكون له برلمان على مقاسه، وسيردّد له سرديّته أن التونسيين في "علو شاهق"، حتى ولو لامسوا الدرك الأسفل من الجحيم.