دونكيشوت توأم ثرفانتس
لا يخال المرء أن الرواية - التحفة المعتبرة الأولى زمنياً ومرتبة، أقلّه في العالم الغربيّ، والتي ذهب بطلُها ليصبح من أكثر الشخصيات الروائية انتشاراً وتأثيراً في العصور المتتابعة، قد كُتبت بدافع اليأس والإحباط والخيبات المتلاحقة التي أصابت مؤلّفَها، خلال جزء كبير، لا بل الجزء الأكبر من حياته التي انتهت وهو في عمر يناهز التاسعة والستين (1547 – 1616). وربما كان في الإمكان اختصار قصة دونكيشوت بفكرة رئيسة، هي ضرورة التشبّث بالأمل رغم كل الهزائم التي تُمطرنا بها الحياة، وهي حال فارسها الهائم، الخمسيني النحيل المتهاوي، الذي يصرّ على رؤية حلمه الجميل في كل شيء قبيح، وعلى التمسّك بمُثُله العليا برغم مناقضة الواقع إياها.
في مطلع القرن السابع عشر، كان ثرفانتس قد أصبح في الثالثة والخمسين من عمره، وكان يكفيه أن يقوم بجردة سريعة لحياته، ليدرك كم كانت بائسة وقد شكّلتها سلسلة من المغامرات الفاشلة والعثرات التي صادفها في طريقه، هو الذي كان في بداياتها شابّاً مفعماً بالأمل والحماس. ففي الثامنة عشرة من عمره، ترك ثرفانتس عائلته ومضى ليكتشف العالم. حسّ المغامرة لديه حمله إلى بلاد الفلاندر (بلجيكا)، ثم إلى إيطاليا، وأخيراً إلى دخوله الجيش الإسباني، حيث أصيب في إحدى المعارك (ليبانت) إصابات بالغة في صدره وذراعه أدّت إلى شلل يده اليسرى (لُقّب بسببها بالأكتع). قضى الجندي الشاب ستة أشهر في المشفى خرج من بعدها، وكان في الثالثة والعشرين، ليلتحق مجدّداً بخدمته في الجيش، في صقلية، حيث أمضى نحو خمس سنوات جرى تسريحه من بعدها. لكن، في طريق عودته إلى إسبانيا، اعترض الأتراك سفينته في المتوسّط، فأسروه في يوم ميلاده الثامن والعشرين، وأودعوه سجن مدينة الجزائر، بعد أن اكتشفوا أنه يحمل في جعبته رسالة ابن شارلكان (ملك إسبانيا) الذي كان قد زار الجرحى أثناء وجودهم في المشفى، وأعطاه الرسالة لمساعدته على بدء حياته من جديد. اعتقد الأتراك أن ثرفانتس شخصية مهمّة بالنسبة لبلاده، فقرّروا أن يطالبوا بفدية مرتفعة ثمناً لإطلاق سراحه، وحصلت مفاوضات عدة لم تُفضِ إلى نتيجة، وهو ما أبقاه سجيناً خمسة أعوام قاسية حاول خلالها الهرب مرّات عدة ولم يوفّق. إلى أن دُفعت فديتُه بعد أن تعاون أعضاء عائلته وعدد من أصدقائهم على جمع قيمتها بصعوبة.
عاد ثرفانتس البالغ حينها 33 عاماً إلى فالنسيا، وكان ينوي إغلاق باب الماضي والبدء من جديد، إلا أن سوء الطالع لم يغادره، فكان ينتقل من عمل إلى آخر، ومن مشكلة إلى أخرى، حتى أن ابنة له غير شرعية جعلته يعاني الكثير. في السابعة والثلاثين، تزوّج من ابنة ملاكين صغار، ولم يكن زواجه موفقاً. كان يكتب قصائد لا يقرأها أحد، وكان متّهماً بالسرقة من عمله ليستوفي الديون الكثيرة المتراكمة عليه. وقد قيل إن شقيقتيه وابنته كنّ يمارسن البغاء للاسترزاق. أيضاً، سُجن ثرفانتس أكثر من مرّة، في مدريد وفي إشبيلية (1604) حيث يفترض أنه يقيم.
في هذه الأجواء السوداوية المحبطة جداً، راح ثرفانتس يكتب رائعته التي سيعنونها بـ "العبقري النبيل دونكيشوت دي لا مانشا" (نُشرت على جزأين بين الأعوام 1605- 1615). صحيح أنه لم يُعط فرصة البدء من جديد، وصحيح أن حياته باتت وراءه وأنها ممتلئة بالخيبات والمشكلات، لكن دونكيشوت كان أمله الأخير، نافذته إلى الخلاص، الشعلة الوحيدة التي تبثّ فيه بعدُ أملاً ما. فها هو دونكيشوت في مثل سنّه تقريباً، فارس خمسيني، نحيل، "لم يخرُج من بيته إلا لاصطياد بعض الحمام"، ولم يعرف من الحياة سوى ما كان يلتهمه من قراءاته قصص الفروسية ومغامراتها. مفعماً بالأمل والحماس، وبمقدرته على تغيير العالم، سوف يقوم فارسه الهائم هذا، ذات فجر، بتلميع سلاحه، واستلال درعه ورمحه وسرج جواده، ليخرج إلى العالم...