رئاسة قيس سعيد .. تكنولوجيا الاتصال أم "قدر أحمق الخطى"؟
ما زال فوز قيس سعيد رئيسا للجمهورية في تونس في انتخابات 2019 يثير أسئلة عديدة، تتعلق بقدرته على جمع ما يناهز ثلاثة ملايين صوت، وهو الذي ظل منزويا عن المشهد السياسي، بعيدا تماما، لا يعرفه الناس سوى من خلال إطلالات إعلامية نادرة "يفتي في مسائل تتعلق بالقانون الدستوري". لم يخض الرجل حملة انتخابية، ولم يعقد أي اجتماع مع أنصاره، فضلا عن أنه رفض تسلم أي منحة مالية، حتى من الجهة الحكومية الموكول إليها بالقانون هذا الأمر. ولم يكن الرجل قد ساهم في معركة الديمقراطية قبل الثورة، بل تؤكد مصادر عديدة أنه شارك في تظاهرات ثقافية "علمية" نظمها حزب التجمع الدستوري الديمقراطي، الحاكم آنذاك، أو مبادرات أخرى محسوبة عليه.
وحدها السياقات التي عرفتها البلاد بعد رحيل الرئيس السابق، الباجي قائد السبسي، هي التي تسعفنا بتقديم فرضيات مهمة، ولكنها ليست كافية لتفسير هذا الصعود المفاجئ لشخصية من خارج كوكبة المتنافسين، على غرار ما يحدث في سباقات الخيل الأكثر غرابة. تنشد الأنظار إلى أسماء جياد محدّدة، لكن الفوز، في النهاية، يحالف "خيلا غريبا"، يقدم من خارج الكوكبة، فيسفّه كل الرهانات. يقطف انتصارا سهلا على حساب راكبي الخيل وكل الذين راهنوا عليها، وقد بذلوا جهدا ووقتا ومالا، وأتلفوا أعصابا لينالوا، في النهاية، خسرانا مبينا.
ساق القدر خيارين لا ثالث لهما: مرشح أول، نكرة في عالم السياسة، رأسماله الوحيد لغة عربية فيها صدى لإذاعة صوت العرب، ومرشح ثان خرج لتوه من السجن، لشبهات فساد تلاحقه
الفرضيات التي نركن إليها لتهدئة حيرتنا، وتلطيف عجزنا عن فهم ما حدث هو "قدرٌ أحمق الخطى"، على حد قول إحدى أشهر أغنيات عبد الحليم حافظ. وقد ساق إلينا خيارين لا ثالث لهما: مرشح أول، نكرة في عالم السياسة، رأسماله الوحيد لغة عربية "روبوتية" (نسبة إلى الروبو)، فيها صدى لإذاعة صوت العرب، منبر الأمة في أزمنة غابرة تتمسّح على جلباب عظمة موهومة وصورة الجامعي النزيه. ومرشح ثان خرج لتوه آنذاك من السجن، لشبهات فساد ما زالت تلاحقه (عاد مجدّدا إلى السجن نفسه). سنكتشف فيما بعد أن كل هذه الصور ليست دقيقة، وأنها ليست، في النهاية، سوى جزء من معركة انتخابية يختلط فيها الحقيقة والزيف، الصواب والكذب، فضلا عن أنها لا تقدم شبكة قراءة سياسية صائبة لمرشح منصب الرئاسة، بل إنها تقود إلى فرز غير دقيق، بل خاطئ أحيانا، تحت خدر غضب أخلاقي ساذج.
أمام اختيارين أحلاهما مرّ، تم انتخاب قيس سعيد الذي لا يعرف عنه الناخبون شيئا سوى ما ذكرتُ من صدى صوت وصورة. وكانت هذه الصورة الغامضة والملغزة جزءا من استراتيجية إعلامية محكمة الصنع، تم الاشتغال عليها كثيرا، هي التي رجّحت الخيار في سياق تونسي، نقم فيه الناس على سياسيين محترفين، طبّعوا مع الفساد، حتى تحولوا إلى فاسدين. يقول المثل الفرنسي لنعت هذه السياقات التي يجد فيها المرء نفسه أمام خيارين تعيسين: "علينا أن نختار ما بين الطاعون والكوليرا ..". ومع ذلك، ليس من اليسير أن "يُساق الناس" هكذا، فيما يشبه الخدر الجماعي، إلى التصويت لقيس سعيد تحت سحر صوته وصورته فحسب. ثمّة تعبئة هامة اشتغلت بشكل محكم من أجل صناعة هذه الصورة، حتى ولو لم ينبس الرجل بكلمة، ولم يجتمع بمناصريه في أي اجتماع انتخابي نظمه.
لم يتورع رئيس منظمة "تونيفيزيون" عن الحديث عن تسخيره معارفه ومهارته في تكنولوجيات الاتصال والإعلام من أجل أن يفوز قيس سعيد
لحل هذا "اللغز الكبير"، أي صعود سعيد إلى دفّة الرئاسة، بدت فرضياتٌ عديدة تتأكّد، يوما بعد يوم، خصوصا وقد تحدثت مصادر عن "مجموعات افتراضية مغلقة" كانت قد انتظمت، منذ أكثر سنتين قبل الحملة الانتخابية، واستطاعت أن توظف أرقى المهارات والكفاءات في مجال التشبيك المعلوماتي، حتى تبني قاعدة تحتية من "ساحات افتراضية" لعبت دورا حاسما في إقناع الشباب تحديدا. تشير تقارير محكمة المحاسبات إلى شيء من هذا، حين تورد التمويلات الضخمة التي ضخت لمئات الصفحات الافتراضية إبان تلك الحملة. كما أن تصريحات، نزار الشعري، وهو أحد أهم مستثمري هذه المنصات الشبابية، ورئيس منظمة "تونيفيزيون"، لم يتورع عن الحديث عن تسخيره معارفه ومهارته في مجال تكنولوجيات الاتصال والإعلام من أجل هذا الفوز المستحق للرئيس قيس سعيد.
على إثر استقباله يوم الجمعة الفارط وزير المالية الأسبق، محد نزار يعيش، دعا الرئيس سعيد إلى تنظيم حوار وطني مع الشباب، وهو بذلك يدعم هذه الفرضية، فلقد قدّم له محدّثه تطبيقا معلوماتيا يتيح له إجراء حوار افتراضي وطني مع الشباب، يتدرج من المحلي إلى الجهوي إلى الوطني، ضمن "التصميم المجالسي" الذي يبشّر "بعصر الجماهير الافتراضية" على أنقاض الديمقراطية العاجزة عن تمثيل كل الشعب وإتلاف صوته الأصيل. وبهذا الشكل، يضرب الرئيس عصفورين بحجر واحد: حل معضلة الديمقراطية التمثيلية بالاستناد إلى التكنولوجيا الافتراضية، وتثمين صوت الشباب تحديدا عله يكون خزّانا انتخابيا قادما.
يراهن قيس سعيد على الشباب، فلم يفوّت مناسبة إلا وتوجه إليهم، يحرّضهم "على السلطة" التي همّشتهم، وأذلتهم كثيرا
يراهن قيس سعيد على الشباب، فلم يفوّت مناسبة إلا وتوجه إليهم، يحرّضهم "على السلطة" التي همّشتهم، وأذلتهم كثيرا. كرر هذا المفردات في مدن الجنوب التونسي التي زارها، وردد العبارات نفسها أيضا، عندما التقى بعضا منهم في حي المنييهلة في ضواحي العاصمة، بمناسبة اندلاع احتجاجات شهر جانفي (يناير/ كانون الثاني). وها هو ينظم لهم حوار افتراضيا يتسع لصوتهم من دون تمثيل، مستعينا بالتطبيقات التكنولوجية التي تمنحهم فرصة الحديث والتكلم من دون وسائط.
مباشرة، إثر إعلان رئاسة الجمهورية عن تنظيم هذا الحوار، ضغط الاتحاد التونسي العام للشغل، وعبر عن خيبته منها، فبادر الرئيس إلى استقبال الأمين العام للاتحاد، وقبول مبادرته الداعية إلى تنظيم حوار وطني، غير أنه اشترط أن يكون موازيا مع الحوار مع الشباب بهذا "الشكل المجالسي" الافتراضي. وليست معروفة التفاصيل المندسة في النيات، وما أكثرها في ثقافة التونسيين السياسية، غير أننا قد نظفر بشكل فريد لحل معضلة الديمقراطية التمثيلية، حين يتم تسخير التكنولوجيا في تثمين كل صوت تجسيدا لإرادة الشعب بلا وسيط، سوى وسائط التكنولوجيا الحديثة. إنها الشعبوية الافتراضية.