رابطة الشُّعراء الموتى
ينحني روبن وليامز، يثني ركبتيه، ويدعو تلامذته إلى الاقتراب. يخاطبهم همساً: "لا نقرأ ونكتب الشعر لأنّه ظريف، بل لأنّنا ننتمي للجنس البشري، المليء بالعواطف"، ولأنّه بمقدور "الكلمات والأفكار أن تُغيّر العالم". ثم يسحبهم وليامز إلى الاجتماع في الدهليز الذي يضمُّ صور الدفعات السّابقة لمدرستهم الخاصة بالذكور، مستعيراً كلمات الشاعر الإنكليزي روبرت هيليك: "تجمّعن أيتها البراعم طالما تستطعن/ الزّمن الغابر ما زال طائراً/ والزّهرة نفسها التي تبتسم اليوم ستموت غداً". في حصّة أخرى، يصعد وليامز في دور الأستاذ جون كيتينغ، ويقف فوق مكتبه، ويدعو تلامذته للصّعود، لأن العالم يبدو مختلفاً من هناك. النتيجة أن حياة الفتيان تغيرت كلياً بفضل الشعر.
في دراسة لجامعة كاليفورنيا، توصّل العالم النفساني الأميركي جيمس كوفمان (Kaufman James)، عام 1987، إلى نتائج لافتة عن أسباب الموت المبكّر عند الكُتاب بشكل عام، والشّعراء بشكل خاص. وخلُص إلى أن معدل الأعمار عند الشّعراء هو 62 سنة فقط، فيما يبلغ المعدل عند الرّوائيين وباقي الكتاب 65 و68 سنة. بالنظر إلى السمات النفسية الهشّة للشعراء وميولهم السوداوية. لكن ما فعله الأستاذ كيتينغ (روبن وليامز) في فيلم "رابطة الشعراء الموتى" (Dead Poets Society) بتلامذته، عبر الشعر، لا يمكن نسبه إلى السّوداوية، بل إنه بعث الحياة في أرواحهم المحاصرة بالقيود. رغم أنّ أحدهم انتحر حين رفض العالم منحه الحياة التي يريد، فكان متطرّفاً في انتصاره لحقيقته الوحيدة في الحياة. لعلّ هذا هو الخطر الوحيد الذي قد يقع فيه الشاعر حين تصدمه الحياة، ألّا يقدر على تحمّل الصدمة. وبدلاً من أن يجد "نيل" الفتى المحب للتمثيل حلولاً عملية، حين قرّر والده إرساله إلى مدرسةٍ عسكرية، فضّل حلاً خالياً من الشعر، فالعالم صار أكثر سواداً مما كان عليه قبل انتحاره.
الخلاصات عن حياة الشعراء نسبية إذن، بقدر ما يكون الشعر راديكالياً في قوة جذبه العاطفية، فهو مبهجٌ وممتلئٌ بالحياة. وليس الأسى حكماً مؤبّداً على الشعراء. الدليل هو من جمع بين الرواية والشعر، واستطاع، رغم رهافته الشديدة، أن يعيش بتوازن نسبي، على حد علمنا على الأقل؛ فكُتّاب هذا الزمن أكثر تكتّماً من غيرهم في النصف الأول من القرن الماضي، حيث كانت المآسي مطروحةً على قارعة الطريق، ولا يُقصّر أصحابها في التعبير عنها. أستدعي من الشعراء الروائيين مارغريت أتوود الكندية التي بلغت الثالثة والثمانين، والسلام الذي يطلّ من عينيها يجمع شفافية الشعر وحكمة الرواية. والأميركي بول أوستر الذي يبلغ الآن الخامسة والسبعين، ويعرفه أغلب المهتمين روائيا، ولكنه يعيش ويفكّر شاعراً. في عينيه آبار عميقة من الأسى، وفي رواياته وشعره ضياع وجودي لا يمنعه من العيش المريح. وكريستيان بوبان الفرنسي الذي تجاوز السبعين عاماً بقليل، والذي لا بد أن تلاحظ، وأنت تقرأ له، أن المعنى والاستغلال الأمثل للحياة يؤرّقانه، أكثر مما يتعبه الإحساس بها.
من العرب، عُرف عباس بيضون شاعراً، لكنه كتب سبع روايات. في حالته، انتصرت حساسية الشعر على واقعية الرواية. ولعلنا نجد في ما صرّح به، متحدّثاً عما عاشه سنة 1976، دليلاً قوياً على ذلك، بإصابته بالخوف المرضي من تكرار تجربة السّجن، إلى درجة أنه أُصيب بانهيار عصبي. ولعل للضغط الناتج عن الموقف السياسي للشاعر دوره في تأزيم علاقته بالحياة، وانتحار الشاعر خليل حاوي دليل على ذلك. وربما لقسوة الحياة على الشّعراء المسؤولية الأكبر في أحزانهم، ولا نعرف هل قست لأنّهم شعراء أو أصبحوا شعراء نتيجة قسوتها.
في جميع الحالات، لا ننكر كيف يزدحم التاريخ بالأسماء التعيسة من الشّعراء الكبار، خصوصا النساء؛ مارينا تسيفايتيفا انتحرت، إلى جانب سيلفيا بلاث وأليخندرا بيثارنيك وآن سكستون. وانتحر من الرجال سيرجي يسنين وتشيزاري بافيز وباول سيلان. لكن ذلك لا يعني أن الشعر يمثّل دعوة إلى الموت ولا إلى الألم، بل يعني أنه كلما كانت الحياة قاسية على الشاعر تسقط دفاعاته مع الزمن، لينهمر الألم. وهذا لا يفقد حياته جدواها أبداً. وهو سؤالٌ طرحه الشاعر الأميركي والت ويتمان، على نفسه، "ما الفائدة من هذا كله يا نفسي ويا حياتي؟ الإجابة: وجودك هنا".