رحلاتُ الموت في لبنان
ها إنّا قد انضممنا أخيراً إلى قوارب الموت ورحلات اللاعودة! هنيئاً لنا هذا الإنجاز الجديد يُضيف إلى إنجازاتنا الأخرى التي تتوالى، من دون أن تمهلنا ولو نفَساً قصيراً، رقماً جديداً يدفعنا دحرجةً إلى أسفل الدركات. منذ 4 أغسطس/ آب، ونحن ننعم يومياً بالأخبار الرائعة، والمفاجآت الجميلة، ونتعامل مع الموت كما لو كان من راحة الحلقوم. والحال أن وضعنا قبل ذلك التاريخ لم يكن بأفضل، صحيح، إنما كنا نشعر، منذ عام 1975، بأنّ مُصابنا مرحليّ ومؤقّت، مهما طال، وأنه لا بدّ للغيمة السوداء أن تنجلي في نهاية المطاف، متيحةً لنا أخيراً استئناف عيشنا "الطبيعي". الآن، بعد الإنفجار الكبير، بتنا ندرك أننا مقيمون أبداً في الثقب الأسود، وأنّ ما نحياه يومياً من حوادث وفواجع وانهيارات، ليس إلا تنويعاً يُديم الحالَ على حاله، قارعاً جرسَ الإنذار إن نحن جنحنا نحو النسيان.
وبينما كانت إحدى القنوات التلفزيونية تبثّ لنا برنامج "ستارز أون بورد"، حيث تحمل باخرة اللهو العملاقة فنانين عرباً ومحبيهم في جولة كبرى على شواطئ العالم، كانت عبيدة الحامل (19 عاماً) تضرب على رأسها فقدانَ طفلها ذي العامين ونصف العام، جائعاً، عطشاً، تائهاً في البحر، وهو يُرمى إلى المياه أمام عينيها مربوطاً بحبل. وقد نُقل عنها أنها قالت: "بدأ الدَّمُ ينزل من رقبتِه ثمّ من ظهرِه. لقد فجّرتِ حرارةُ الشَّمس عروقَه".
ورحلة الموت هذه التي كانت تنقل نحو ثلاثين راكباً لبنانياً من شاطئ المنية في عكار إلى قبرص، هرباً من الفقر، وأملاً بحياةٍ أفضل، كلّفت كلَّ راكبٍ خمسةَ ملايين ليرة لبنانية جُمعت بصعوبة بالغة، وحياةَ معظمهم، بعد أن أُخذت أمتعتهم وما حملوه من الأكل والشرب، لتوضع على مركبٍ آخر كان يُفترض أن يتبعهم. لكنهم تُركوا وحيدين في عرض البحر، مكشوفين، يعانون الحرَّ والعطشَ والجوعَ ثمانية أيام، وقد تاه سائقُ القارب في عرض البحر، وأضاع وجهتَه، جزيرة قبرص التي لا تبعد أكثر من 276 كيلومتراً عن بيروت، على أن ينطلقوا من هناك إلى أوروبا، إن حالفهم الحظُّ ولم تُعدهم السلطاتُ القبرصيّة إلى الشواطئ اللبنانية.
كانت قبرص في جهةٍ ما، والموتُ في جميع الجهات. كان الطفلان (20 شهراً، وعامان ونصف عام) أولَّ الضحايا. بعد أيام، بدأت جثّتاهما تتحلّلان، فربطهما أهلهما إلى القارب، وألقياهما في البحر. روت أم سفيان عن الصغير ذي العامين ونصف العام: "بدأ الدَّمُ ينزل من رقبتِه ثمّ من ظهرِه. لقد فجّرتِ حرارةُ الشَّمس عروقَه". هذه جُملة لا تمرّ سهواً. هذه جُملة تذبح، تطعن، تجمّد الدماءَ في العروق، تغشي البصر، وتجعل سامعَها قادراً على هدّ جبال، على القتل!
لا أعتقد أنّ اللبنانيّ قد عرف، في العقود الأخيرة، هذا النّوعَ القاهرَ من الفقر. أن لا يلقى أمامه أيَّ معين، أيَّ دعم. أن يحيا هكذا في عراء العوز والمهانة والجوع. أن يتحوّل إلى دودةٍ يعمل الجميع على سحقها. أهل المِنْية، وهم أفقر الفقراء وأكثرهم معاناةً من الحرمان، وجدوا البحرَ أمامهم منفذاً، فباعوا آخرَ ما يملكون، أثاثاً، مصاغاً، وبعضهم حتى استدان المبلغَ المطلوب، إذ لعلّ وعسى، ويجب أن يأكل الصغار ويعيشون حياةً أفضل، والبقاء هنا هو الاستسلام للهلاك. لم يكونوا يعرفون أن الهلاك قد ابتلعهم لا محالة، بمجرّد انتمائهم إلى هذه البلاد/ اللعنة، إلى جهنّم الخراب.
ومع ذلك، كيف تجرؤ، أيها القابع في قصرك، بعدُ على الظهور؟ كيف لا تغرق في مياه ضميرك الآسنة؟ كيف لا ترى جسدَ سُفيان الصغير تنسحب منه الحياة، عطشاً وجوعاً واحتراقاً؟ كيف تغمض عينيك وتستمرّ بالجعجعة ولا تخجل؟ كيف لا تُطلق رصاصةً في رأسك وتستقيل؟ أيها الزعيم، القائد، النائب، الوزير، المسؤول، الـ...، كيف لا تأبهون لكل هذا الموت والقهر والخراب؟ ما الذي تتقاسمونه بعد، والمصلوبُ قد لفظ الرّوحَ، والدنيا قد أعتمت، والناسُ قد ابتلعهم الطاعون؟