رواية "حرب" لفردينان سيلين
في الخامس من مايو/ أيار الجاري، خرجت إلى النور الروايةُ المنتظرة لأحد أهمّ الكتّاب الفرنسيين في القرن العشرين، لوي فردينان سيلين (1894-1961)، عن دار غاليمار الفرنسية، بعد فقدها مخطوطةً، سرقتها بالأحرى، تم إيجادها بعد عقود، مع أعمال أخرى يعدو مجموعُ صفحاتها الستة آلاف. وهو ما شكّل حدثا أدبيا بارزا هزّ الأوساط الأدبية الفرنسية والعالمية، كونه يتعلّق بإصدار أول الأعمال المجهولة لكاتبٍ بحجم سيلين، بعضها يعود إلى عام 1934، كما هي حال الرواية المذكورة ههنا، بالإضافة إلى روايتين جديدتين، وصفحات من مخطوطة "الموت بالتقسيط"، وأجزاء محذوفة من رواية "رحلة إلى أقاصي الليل" يُفترض أن تُمنح للمكتبة الوطنية في فرنسا.
اللافت في الأمر أن محبّي سيلين وكارهيه (لأسباب غير أدبية سببها معاداته السامية وكرهه المعلن لليهود) على السواء، اعترفوا بأهمية الرواية وصنّفوها من ضمن أعماله الأهمّ، هي الواقعة زمنيا بين تحفتيه الفنّيتين الأكثر اشتهارا، "رحلة إلى أقاصي الليل (1932)، و"موت بالتقسيط" (1936). ولمن لا يعرف قصة المخطوطات المفقودة التي عُثر عليها في الآونة الأخيرة، فهي كانت قد سُرقت من شقة سيلين في باريس عام 1944، بعد أن غادر وزوجته إلى ألمانيا، هربا من عواقب تعاونه مع حكومة فيشي المتعاونة بدورها مع النازية، وذلك بعد تأكّد الهزيمةُ القريبة والمحتومة للجيش النازيّ. ولقد ذكر سيلين، في أكثر من موضع وأكثر من مناسبة، تأثّره وحزنه الكبير على ضياع أعماله تلك، معتقدا حتى مماته أنها قد فقدت إلى الأبد، إلى أن اتضح أنها ما زالت في حوزة أحد الذين قاموا بالسرقة، مخبوءة داخل قبو في أحد منازل جزيرة كورسيكا، منذ أكثر من 70 عاما. في النهاية، وصلت المسروقاتُ الأدبية إلى يد الناقد المسرحيّ جان بيار تيبودا، إثر تلقّيه رسالةً من مجهول يخبره فيها بأنه يريد تسليمها، شرط أن لا يتم نشرها إلا بعد وفاة أرملة سيلين (فارقت الحياة عام 2019 عن عمر يناهز 107 أعوام)، وذلك خوفا من استغلالها طمعا بالمال.
ولكن، إلى جانب غرابة القصة، أو "معجزة" إيجاد المخطوطات المسروقة، فإن قرّاء العالم سينعمون بقراءة عمل فذّ، استثنائي، قويّ، قاسٍ ومتهكم في آن، كما هي نصوص سيلين عامة، حيث يروي الكاتبُ تفاصيلَ تجربة مؤسِّسة عاشها شابا في الحرب العالمية الأولى، عندما كان مجنّدا في سلاح الفرسان، في ثكنة رامبويه (ضاحية باريسية). ومثلما أوردت دار غاليمار، فإن الصفحات الأولى من الرواية ناقصة على ما يبدو، إذ تبدأ الصفحة الأولى بعبارة "ليس تماما"، لتنتهي بجملة: "لقد أُصبت بالحرب في رأسي"، والإصابة هنا بمعنى التقاط عدوى أو جرثومة، وليس بمعنى الإصابة في الحرب، وهو ما تصفه الرواية التي تنطلق من سيرة ذاتية لتنتهي في تخييل تام لما يعيشه بطلها، العريف فردينان. فسيلين بالفعل تلقى إصابة فعلية في ذراعه اليمنى، ثم في رأسه حين انفجرت بقربه قذيفةٌ رفعته في الهواء لتضرب جمجمته في جذع شجرة، عام 1914 في بلجيكا، ما طرحه أرضا وأبقاه ممدّدا جريحا بين الجثث، غائبا عن الوعي، يعاني ألما وجوعا وعطشا، قبل أن يقوى على النهوض والسير نحو سبعة كيلومترات ليجري إنقاذه على يد جندي انكليزي حمله إلى حيث الصليب الأحمر. تُخبرنا الرواية بهذا كله، واصفةً "المسلخ العالميّ في طور الجنون"، وتجربة الحرب الكبرى المرعبة التي مرّ بها الشاب سيلين، فتركت في نفسه وجسده كبير الأثر.
تروي "حرب" زمن انهيار الأوهام ولحظة الوعي الشقيّ لجنديّ في العشرين من عمره، يُنقل إلى أحد مشافي منطقة الفلاندر، ليعالج من إصابته الخطيرة، بإشراف ممرضةٍ شبقةٍ تستغلّ الجرحى لإشباع نزواتها، وتنتهي بمغادرته إلى لندن، العاصمة البريطانية التي تمنح اسمَها عنوانـًا لرواية جديدة قادمة "مخطوطة من ألف صفحة"، تعدنا الدارُ بنشرها في الخريف المقبل.