رينيه في حفرة ريان
خرج الرجلُ الثمانيني مساءً ليتمّ واجبَه "الرياضي" اليوميّ. الجميع هنا يخبره بأن عليه التمتّع بلياقةٍ بدنيةٍ في حدّ أدنى إذا أراد المحافظة على لياقة ذهنية. وبالتالي، على شيء من حريته وحق تقرير مصيره. الجميع، أصدقاؤه، طبيبه، المجلات، البرامج التلفزيونية، وسائل التواصل الاجتماعي، .. إلخ. يفكّر الرجلُ الثمانينيّ أن من مصلحته الإصغاء، فهو يعيش وحدانيا كعشرات آلاف من العجائز هنا، وهو لا يريد أن يترك بيته ليستقرّ في أحد تلك البيوتات الفظيعة إلى حيث يُنقل المسنّون ليُنهوا حياتهم. دور العجزة، ومهما بدا عليها الترف، تبقى قبورا مفتوحة، وهو ما أثبته التحقيق الصحافي الصادر أخيرا في كتاب حمل عنوان "حفّارو القبور". هذي مدنٌ لا تحبّ مسنّيها، تودّ لو تُخفيهم عن الأنظار، لو يموتون بدون مساعدة، بأناقة، بصمت. لكنهم، وبعنادٍ مخيف، يستمرّون في العيش، تطول أعمارهم، ويتسبّبون لها بفضائح لا تحتمل. خلال موجة القيظ التي ضربت أوروبا في صيف 2003، توفي نحو 50 ألف شخص، 87 بالمئة منهم تزيد أعمارهم عن 70 عاما. يومها، صحت باريس على مقبرة جماعية: 15 ألف مسنّ وعاجز وقاصر عقليا قضوا وحيدين في شققهم. أجل، فشهر أغسطس/ آب مقدّس عند الفرنسيين، إنه فترة العطلة الصيفية التي يهون من أجلها كل شيء! لا، لن يترك رينيه شقته ويذوي هناك ككلب متروك، أو كبصلة.
ارتدى رينيه معطفه بعدما أنهى عشاءه، ثم اعتمر قبّعته ولفّ شاله الصوفي جيدا حول رقبته. فكّر أن يرتدي قفّازيه، لكنه غيّر رأيه، الجيوب تكفي وهو لن يطيل. سيسير خلال 20 دقيقة، ثم يعود. إن فاجأه بردُ يناير/ كانون الثاني بأكثر مما يطيق، خفّض المدة إلى 15 دقيقة. 30 دقيقة مشي روحة وإيابا أكثر من كافيةٍ لتزييت مفاصله، تهوئة رئتيه وتنشيط دماغه. إذا لم يغلبه النعاس، استأنف عمله. ثمّة أرشيفٌ هائلٌ من الصور عليه ترتيبه، والوقت يضيق، والعمر يتقدّم.
رينيه روبير (René Robert)، همس باسمه، وهو يتقدّم على الرصيف متفاديا المارّة. لقد أصبحتَ مصوّرا مشهورا وحققتَ ما كنت تحلم به. رقص الفلامنكو هو غوايتك وعصاك السحري. من سويسرا إلى باريس، وها أنت لم تزل قادرا على إعالة نفسك. في مارس/ آذار المقبل، تتمّ 85 سنة! تنفّس رينيه ملء رئتيه مبتسما، ثم توقف ليقطع الطريق إلى الرصيف المقابل. أضاءت الإشارة حمراء، فعبر، ثم رفع قدمه ليعتلي الرصيف، شعر بضيقٍ واختلّ توازنه، فمشى خطوتين وهوى أرضا. كان يتنفس بصعوبة، غير قادرٍ على إبقاء عينيه مفتوحتين، أو على قلب نفسه لكي يطلب مساعدة، ثم غاب عن الوعي. كانت التاسعة ليلا. الحرارة تتدنّى، والمنطقة حيث هوى ليست معزولة أو قصيّة، بل في قلب العاصمة. شارع توربيغو في منطقة لاريبوبليك، حيث توجد عماراتٌ مأهولة، وسياراتٌ تعبر، ومارّة، وراكبو درّاجات ومحلات. هناك، بقي رينيه ممدّدا على الرصيف زهاء تسع ساعات، في البرد اللاسع، من دون أن يلتفت إليه أحد، أو يتوقّف عنده، أو ينحني ليتفقّده. إلى أن وجده أحدُ المشرّدين في السادسة صباحا، فأبلغ عن وجوده. لقد مات الرجل الثمانيني بردا وإهمالا وتوحّشا، ولم يكن فقيرا أو مشرّدا. تعثّر ووقع، أحسّ بعارضٍ صحّي ووقع، بهذه البساطة، ولم يجد من يسأله، أو يرفعه عن الأرض، أو يتفقّد حاله.
يخطر ببالي ريان، ابن الخمس سنوات الذي قضى برغم كل محاولات إنقاذه، فأبكى العالم كلّه. وجودُه داخل تلك الحفرة الضيقة، المعتمة الباردة حيث ناسَ بطيئا، في رحم الأرض، بعيدا عن حضن أمه، ذراعي أبيه، رحمة ربّه، سيبقى يسكن أعيننا، كما هي النهايات الكثيرة وغير السعيدة للأبرياء في هذا العالم. يصعب تخيّل دموعه وعذابه وارتعاد بدنه الصغير. أيّ ذعرٍ وأي شقاءٍ يفوقان قدرة جبلٍ على الاحتمال، فكيف بطفلٍ صغيرٍ هشٍّ كوردة، وهو يقابل غول الموت بأعين مفتوحة؟
مثل ريان، وقع المصوّر رينيه روبير، في حفرة. لكنها حفرة الحداثة والتقدّم وبلوغ الإنسان قريبا سماءه السابعة. إلا أنّ أحدا لم يسعَ إلى إخراجه منها، لم يمددْ يدَه بماء، أو ينفخ في أذنه كلمة عزاء.