سبحان الذي أسرى بالكتب
"دخل أسيرٌ مكتبة السجن سائلاً عن كتاب، فأجابه السجّان: الكتاب ممنوع وغير مُتوفّر، لكنّ مؤلّفه في الزنزانة رقم 110"، تقول نكتة يتداولها الأسرى الفلسطينيون. ولكن، يمكن للكِتاب أن يتوفّر خارج السّجن، فيما صاحبه محبوسٌ في زنزانته. لهذا "أكتب حتّى أتحرّر من السّجن"، كما كتب وليد دقّة الذي رحل عنّا، بعد أن هرّب طفلة اسمها ميلاد، وكُتباً ورواياتٍ، وبعد قرابة 40 سنة في الأَسر، ورحلةِ نضال فريدة. لكنّه تحرّر بطرق لم تخطر في بال السجّان. كما تحرّر باسم خندقجي، وانتصر بروايته مرّتين: حين خرجت من الأسوار، وحين فازت بجائزة بوكر العربية.
وعرفت المنطقة العربية أنّ الأسرى يكتبون أيضاً. بسبب تلكَ الكتابة، نتعرّف تجربة الأَسر الرهيبة في قبضة سجّان مُجرم، لا يتردّد في تمرير الأسرى بكل أدوات التّعذيب، التي تصفها بشكل بالغ التأثير رواية حسام شاهين "زغرودة الفنجان" (الأهلية للنّشر والتوزيع، عمّان، 2015)، ومن أبشعها التنقّل بين عدة سّجون؛ الجلبوع وهداريم ومجيدو ونفحة الصّحراوي. حيث الرّحلة في حدّ ذاتها عذابٌ بالغ، ونقل الأسرى إلى سجن نفحة الصحراوي الرهيب عقاب وعذاب آخر، عبر مركبات مصفّحة تسمى "البوسطة"، صُمّمت لكسر همّتهم، تقودهم لساعات من سجن إلى آخر أو إلى المستشفى، فيتضاعف ألم المريض، الذي قد يستشهد من دون تلقّي أيّ عناية طبّية خلال فترة طويلة من المرض.
كيف خرجت رواية "قناع بلون السماء" (دار الآداب، 2023)، من السجن؟ وكلّ كُتب الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال؟... يمكننا تخيّل دسّ الأوراق في كلّ ما يمكن إخراجه خفيةً عن أعين السجّان، فالورق خفيف وصبور، على عكس النُّطفة المهرّبة التي أنجبت ميلاد وليد دقّة، وهي معجزة حقيقية. فالنّطفة تحتاج إجراءات مُعقّدة لإخراجها، بعد وضعها في حبّة تمر، وقد تنجح أو لا تنجح. ما الفرق بين إنجاب أسيرٍ كتاباً وإنجابِه طفلاً؟... الكتاب انتصار أبدي، وشهادة على جرائم الاحتلال. والطّفل انتصار نضالي في معركة طويلة، بصمة في تاريخ النّضال ضدّ الاحتلال، مثل حفر الأبطال الستّة نفقاً حرّرهم من سجنهم بالملعقة. بدوره، واصل المناضل أحمد سعدات رحلته مع الكتابة داخل السّجن، حيث قضى 30 سنة. ووصف في "صدى القيد" (2017)، حياة الأسير المعزول انفرادياً ومعاناته في زنزانته، ومحاولات تدميره نفسياً، فالعزل من أشدّ أساليب التعذيب قسوة. وسعدات أدرى به بعد أن خَبِرَه فترةً طويلةً.
كانت لي فرصة الاطلاع على عدد مُهمّ من كُتب الأسرى عام 2021، بعد مهمّة صحافية عرّفتني مبادرة مهمّة، هي مبادرة المحامي حسن عبادي، المسمّاة "لكل أسير كتاب"، التي أطلقها منذ سنوات، آخذاً على عاتقه تحرير كلمات الأسرى، في انتظار تحرّرهم.
يُطلعنا الأسير الكاتب كمال أبو حنيش على كيفية إخراج الكتب. "في البداية كانت تتمّ عن طريق الأسرى المُحرّرين. وفي السنوات الأخيرة، عبر هواتف بدائية مُهرّبة، يملي الأسرى عبرها، ويسجل الطرف الآخر من السماعة... وأحياناً يتمّ تصوير الأوراق."عبر كتب الأسرى، لا نتعرّف ظروف السجن فقط، بل ظروف الاعتقال أيضاً، "يُداهم الجنود مخبأك أو بيتك فتسمع ضربات قبضاتهم على البوابة، وترى بنادقهم، مصوّبة نحو أفراد أسرتك. تجاهد والدتك أنفاسها، وتشد بيد غطاء رأسها وتذود عنك بالأخرى. تقف أختك الصّغيرة مشدوهة وهي تفرك بيدها عينها. وينتصب والدك صارخاً في حشد الجنود، ويدفع فوهات بنادقهم عن رؤوس إخوتك"، كما كتب الأسير أسامة الأشقر في رواية "للسجن مذاق آخر".
لكن كلّ الأسرى لا يكتبون من أجل نشر كتبهم، فهناك أسير فقد والدته عام 2011 من دون وداع، وما زال يكتب إليها، وإلى صديقه الذي استشهد قبل 17 عاماً. كذلك لا يكتب كثير منهم بقرار سابق، كما أنّهم لم يخوضوا النضال عمداً، لكنّ الاحتلال دفعهم إلى المقاومة. "لستُ مناضلاً أو سياسياً مع سبق الإصرار والترصّد، بل كان من الممكن أن أُكمل حياتي كدهان أو عامل محطة وقود مثلما فعلت قبل اعتقالي"، كما جاء في رسالةٍ من وليد دقّة، الذي حصل على الماجستير في العلوم السياسية، في الأسر، وصار من أهم مفكّري حركة الأسرى ومناضليها. وهي معركة بطولية أخرى يخوضها الأسرى من أجل حقوقهم خلف الأسوار، وتكشفها كتبهم.