سجّل أنا نازح
بيني وبين البطاقة الزرقاء خصومة قديمة وكبيرة. تعني تلك البطاقة أنني لاجئة، وقد سجلت بداخلها معلومات عن قريتي التي هجّر منها جدّي ورقم تسلسلي للبطاقة يشير إلى فرع مركز توزيع المساعدات الإغاثية للاجئين الفلسطينيين، كلّ حسب منطقة سكنه، وقد ظلّت الخصومة القديمة بيني وبين اعتراف اللجوء منذ كنتُ تلميذة في المرحلة الابتدائية، وحيث كنّا نساق خلال الفسحة بين الحصص إلى مركز قريبٍ مخصّصٍ لتناول وجباتٍ كريهة، يتبعها الإجبار على ابتلاع قُرص كريه الطعم أيضا من زيت السمك، وقد كنتُ أتهرّب من الطابور، وبعد ذلك سلمت المعلمة لرغبتي، ولم تعد تصحبني.
وحين أصبحتُ أمّاً، لم أسحب أطفالي للعلاج في المراكز الصحية التابعة لوكالة الغوث، ولم أتلقّ أدويتي الشهرية المخصصة لعلاج مرض الضغط المزمن حين تقدّم بي العمر، وكنتُ أبتاع الأدوية وأذهب إلى عياداتٍ خاصة، ليس من باب الترف والثراء أبدا، ولكن بسبب كرهي إحساس الذل والبؤس، وأنا أتلقّى تلك الخدمات متسولةً وضائعةً وسليبة حقوقٍ مرّ عليها زمنٌ، وأصبح التسليم باللجوء واقعا.
اليوم وحين حطّ بي الرحال من مكان نزوحٍ إلى آخر، وقد أمضيتُ في مدينة خانيونس شهريْن، وأشار عليّ النازحون أمثالي بضرورة تسجيل بيانات عائلتي في أقرب مركز إيواء للنازحين، سواء كان مدرسة تابعة لـ"أونروا" أو حتى مستشفى أو عيادة تقدّم خدماتٍ للحوامل والمرضعات، ولكني رفضتُ رفضا قاطعا من باب الخصومة التي لم تتزحزح، والتي كنتُ أشعرُ بها تحفر في قلبي وروحي ندوبا أكثر في كل محطّة نزوح كنا ننتقل إليها منذ بدء الحرب.
ففي كل محطّة، هناك الخوف والضياع والتعب والمشقّة وكلفة الانتقال، وتلت ذلك كله مناظر مرعبة لنزوح كل الناس، بغض النظر عن كونهم لاجئين أو سكّاناً أصليين لمدن غزّة، وقد كانوا قليلين إبّان النكبة الأولى في العام 1948، ولم تختف التفرقة بين مسمّى لاجئ ومواطن منذ ذلك الحين، حيث امتلك أهل المدن الأصليون الأراضي الزراعية الواسعة مثلا، وكانت لهم تجارة رائجة. أما اللاجئون فلم يمتلكوا سوى علمهم وشهاداتهم وتفوق أولادهم في التعليم، حسبما كان يفخر جدّي بأبنائه ذكورا وإناثا.
في مدينة خانيونس. كنت أستمع لصوت متعجّل يصدُر من مكبّر صوت قريب، وهو ينادي على أسماء النازحين، وتصنف الأسماء حسب عائلاتها الملحقة بها ما بين لاجئ ومواطن، لأكتشف أن المواطن ابن المدينة قد لحق ببؤسنا وأصبح ينتظر طردا غذائيا، كونه فقد البيت والأرض والتجارة، ولم يعد هناك فرق. اتّسع سنواتٍ وضاق خلال شهور الحرب بأسرع مما يتخيّل المفاضلون.
اليوم في رفح، وحيث نخر البرد عظامنا، وصار الألم لا يوصَف في أنحاء جسدي المنهك من عناء السنين خصوصا، ولكن العثور على أغطيةٍ ثقيلةٍ صار أيضا ضربا من خيال، والعثور على حشياتٍ إسفنجية سميكة تمنع عن أجسادنا برودة رمل الخيام أو البلاط ضربا من المعجزات. ولذلك، أشار علي نازحون جدُد تعرّفت إليهم بضرورة تسجيل بيانات عائلتي في أقرب مدرسة تابعة لـ"أونروا" أمام وعود بتوفير مستلزماتٍ لمواجهة برد الشتاء.
قاومت كثيرا، وألحّ أولادي فيما كانوا يفترشون بلاط شقّة صغيرة، وصلنا إليها في أثناء ترحالنا. ولذلك، وافقت وأعطيتهم بيد مرتعشة وعينين دامعتين البطاقة الزرقاء التي كادت تبْلى، والتي يتقدّمها شعار "أونروا". بعد أيام، عاد الأولاد بحشياتٍ إسفنجية مغطّاة بالجلد الأسود السميك، وببعض البطّانيات المميزة والتي لم تتغيّر على مرّ السنين بلونها الرمادي الذي لا أحبّه، والتي رسم عليها شعار "أونروا".
علقت ابنتي فرحة أن الحشيّات المغطّاة بالجلد مخصّصة للمواطنين الذين يعيشون في مناطق الكوارث، حيث تمنع الماء والرمال ويسهل تنظيفها، وفيما دسّ الأولاد أنفسهم تحت البطّانيات الرمادية كنت أدسّ دموعي بكمّ كنزتي الصوفية المهترئة، والتي حصلتُ عليها بصعوبة من سوق بيع الملابس المستعملة، وحيث تعاني أماكن النزوح من شحّ الملابس والأحذية وأشياء كثيرة ليس من بينها بالطبع دموع النازحين.