سقوط المنظومة الدولية لحقوق الإنسان
احتفت الأوساط الحقوقية في العالم، الأحد الماضي، بالذكرى الـ75 لصدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، الذي صادقت عليه الأمم المتحدة في 10 ديسمبر/ كانون الأول 1948. وجاء صدوره في سياق التداعيات المأساوية التي خلفتها الحرب العالمية الثانية، بعد مقتل أكثر من 60 مليون شخص، معظمهم مدنيون، فضلا عن ملايين الجرحى والمعطوبين. وقد أصبح الإعلان، الذي صاغه حقوقيون ودبلوماسيون وفقهاء قانون من مشارب ثقافية وقانونية مختلفة، وثيقةً حقوقيةً تأسيسيةً، في الوسع اعتبارُها خريطة طريق لحماية حقوق الإنسان وحرياته.
وعلى الرغم من أن النصف الثاني من القرن المنصرم شهد حروبا ونزاعات، لم يخْلُ بعضها من ''جرائم حرب'' و''جرائم ضد الإنسانية'' و''جرائم الإبادة الجماعية''، إلا أن الإعلان، بكل ما تفرّع عنه من عهود وصكوك واتفاقيات دولية مختلفة، بقي يشكّل الحد الأدنى من تطلعات شعوب الأرض نحو القطع مع كل أشكال انتهاكات حقوق الإنسان وضمان حمايتها والنهوض بها، ولا سيما في ظل نشاط موازٍ للمنظمات غير الحكومية التي كان لبعضها دور بارز في فضح انتهاكات حقوق الإنسان في أكثر من بلد. بالطبع، لم تخلُ حقوق الإنسان من نزعات تسييسٍ فرضتها سياقات الحرب الباردة ومكافحة الإرهاب والمصالح الاقتصادية والجيوسياسية العابرة للحدود، غير أن ذلك لم يمنع من أن يبقى الإعلان حائزا الحدَّ الأدنى من المصداقية.
اليوم، يبدو أننا أمام منعطفٍ مفصليٍّ بشأن كل ما راكمته المنظومة الدولية لحقوق الإنسان التي يشكّل الإعلان المذكور حجر الزاوية فيها، فأمام حرب الإبادة التي يتعرّض لها سكان غزّة من قوات الاحتلال الإسرائيلي، تبدو هذه المنظومة وكأنها وصلت إلى سقفها، بعدما عجز النظام الدولي عن وقف هذه الحرب، أو على الأقل الحدّ من كلفتها الإنسانية الباهظة. واللافت هنا أن صمت المنظومة الدولية لحقوق الإنسان، أو بالأحرى تواطؤها حيال جرائم جيش الاحتلال في غزّة، لا يقتصر على الانتهاكات التي تتعرّض لها الحقوق المدنية التي تندرج، حسب أدبيات حقوق الإنسان، ضمن الاتفاقيات العامة، وفي مقدّمتها الإعلان العالمي، بقدر ما ينسحب كذلك على الانتهاكات التي تدخل ضمن الحقوق التي تؤطّرها الاتفاقيات الخاصة، وتحديدا اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبةِ عليها، المعتمدة من الجمعية العامة للأمم المتحدة في 1948، والاتفاقيات المتعلقة بحماية الفئات، وبالأخص اتفاقية حقوق الطفل المعتمدة من الجمعية العامة للأمم المتحدة (1989).
صمت هذه المنظومة أمام مقتلة غزة يفضح نفاقها وزيف ما تقوم به من أجل حماية حقوق الإنسان. أين هي منظمّة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف)؟ بِمَ يشعر أعضاءُ مجلسها التنفيذي بعد مقتل نحو عشرة آلاف طفل في قطاع غزّة؟ أين هي المنظمّات الدولية المدافعة عن حقوق النساء ومناهضة التمييز والعنف القائمين على النوع الاجتماعي؟ أين هي المنظمّات النسائية المنشغلة بتعزيز تمثيلية النساء، في هذا البلد أو ذاك، داخل المجالس المحلية والبلدية والنيابية، في وقتٍ تتعرّض فيه آلاف النساء لحرب إبادة في غزّة. حتى المنظمات التي أصدرت بيانات في هذا الصدد، أدرجت مقتلة نساء غزّة ضمن ''التصعيد العسكري الإسرائيلي''، وذلك بشكل يفضح تبنّيها المضمر السردية الإسرائيلية. لِمَ يتحمّس المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية أكثر لمطالب عائلات القتلى الإسرائيليين في ''طوفان الأقصى''، في وقت يقابل فيه مطالبَ ذوي الضحايا الفلسطينيين بفتورٍ بادٍ يعكس ازدواجية المعايير في أدائه؟
لقد أوصل العدوان الصهيوني على قطاع غزّة المنظومة الدولية لحقوق الإنسان إلى الباب المسدود، بعد أن أصبح الكيل بمكيالين في التعاطي مع القضية الفلسطينية ''آلية عمل'' تأخذ بها الهيئات والمنظمّات الحقوقية الدولية، حتى تتجنّب غضب إسرائيل والدوائرِ التي تتبنّى سرديتها. وبذلك تساهم هذه الهيئات والمنظمات في منح الكيان الصهيوني ''شيكّا على بياض'' لمواصلة حرب الإبادة التي يشنها منذ أكثر من شهرين على المدنيين في قطاع غزّة، في تحدٍّ صارخٍ لكل القيم الأخلاقية والإنسانية التي يُفترضُ أن القانون الدولي الإنساني ينهض عليها.