سلاطينُ الأحزاب في المغرب
نجح الكاتب الأول (الأمين العام) لحزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية (المغربي)، إدريس لشكر، في الفوز بولاية ثالثة، في ختام المؤتمر الوطني الحادي عشر الذي انتظمت أشغاله، نهاية الأسبوع المنصرم، في مدينة بوزنيقة، بعدما تفوق على ''منافسه'' طارق سلام (المقيم في إسبانيا!). وقد أثار ترشّح لشكر جدلاً كبيراً داخل الحزب الذي يُعدُّ أحد أعرق الأحزاب المغربية وأكثرها حضوراً في تاريخ المغرب السياسي المعاصر. واتسعت رقعة هذا الجدل بعد التعديل الذي مسَّ النظام الداخلي للحزب، وأضفى ''الشرعية'' على هذا الترشّح.
نجح لشكر في إحكام قبضته التنظيمية على الحزب، من خلال هيمنته على المكتب السياسي والتنظيمات الموازية، وإبعاد خصومه عن مواقع القرار. ونجح، أيضاً، في تغيير بنية الحزب بتحويله من حزبٍ تُمثل الطبقة الوسطى الحضرية قاعدته العريضة إلى حزبٍ للأعيان ورجال الأعمال النافذين وأباطرة الانتخابات، بشكلٍ يذكّر بالأساليب التي تنتهجها الأحزاب الإدارية (المحسوبة على السلطة) في إدارة شؤونها. ولم يكن مستغرباً أن يُبرّر المكتب السياسي للحزب تجديدَ الثقة في لشكر بنجاحه في ''إنقاذ الحزب من الاجتثاث''، و''الحصيلةِ الإيجابية التي حققها في الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة''، في ما يبدو محاولةً لسحب البساط من حسناء أبو زيد، منافسة لشكر، التي يرى اتحاديون كثيرون أنّها الأنسب لقيادة سفينة "الاتحاد الاشتراكي" في هذه الظرفية، بعد تراجعه المهول وفقدانه هويته السياسية وقاعدتَه الاجتماعية، وتحوُّله إلى حزبٍ يبحث عن الأعيان لضمان الفوز بأكبر عدد من المقاعد في مجلسيْ البرلمان، تُخوّل له المشاركة في الحكومة بصرف النظر عن لونها السياسي وبرنامجها. وكان إخفاق قيادة الاتحاد الاشتراكي في إقناع عزيز أخنوش، بعد تعيينه رئيساً للحكومة، بالانضمام للائتلاف الحكومي الحالي عنواناً آخر للأزمة التي يتخبّط فيها الحزب منذ سنوات، بعدما بات يجد صعوبةً بالغة في إيجاد مكان له ضمن المشهد السياسي يليق بتاريخه النضالي.
يستدعي فوز إدريس لشكر بولاية ثالثة أزمة الديمقراطية داخل الأحزاب المغربية، على اختلاف مواقعها وأطيافها الفكرية والإيديولوجية. وهي أزمةٌ لا تنفصل عن أزمة السياسة المغربية وإخفاقها في المصالحة مع الديمقراطية واستيعاب مقتضياتها. وبالرجوع إلى الوثائق المرجعية والتأسيسية لهذه الأحزاب، يُلاحظ أنّها تخصّص حيزاً لافتاً للديمقراطية، بحيث تطالب بدمقرطة النظام السياسي ونزاهة الانتخابات، وتعتبر الديمقراطية ليست فقط آلية لتنظيم الصراع السياسي، لكن أيضاً قاطرةً للتحديثين، الاجتماعي والثقافي، ما يجعلنا إزاء مفارقة صارخة في ظل الطرائق السلطوية والمركزية التي تُدار بها في الواقع، لا فرق في ذلك بين الأحزاب المنحدرة من الحركة الوطنية والأحزاب الإدارية.
تعرف معظم الأحزاب المغربية انحباساً تنظيمياً بسبب تخشّب خطابها ومركزية تسيير شؤونها، فغالباً ما يتحكّم زعماؤها في هندسة بنية نخبها، المركزية والجهوية والمحلية، التي لا تندرج دمقرطةُ الفعل الحزبي ضمن أولوياتها، ما يُحدِث فجوة بين هذه النخب التي تصبح مواليةً بالضرورة لهؤلاء الزعماء، والقواعد والطاقات الشابة التي يُفترض أنّها تغذّي الحزب تنظيمياً عبر القطاعات الموازية (الشباب، النساء...). ويبدو هذا الانحباس واضحاً في مؤتمرات الأحزاب التي لا تخرج عن سيناريوهين: تحوّل المؤتمرات إلى مهرجانات خطابية لإعادة انتخاب هؤلاء الزعماء وترسيخ هيمنتهم. خروج هذه المؤتمرات عن السيطرة نتيجة فشل الأجنحة المتصارعة في إدارة خلافاتها، بشكلٍ قد يصل، أحياناً، إلى حد الاشتباك بالأيدي والتراشق بالكراسي والصحون.
فشلت الأحزاب المغربية في تجديد هياكلها وتحديث خطابها السياسي، وتراجَع دورُها في الوساطة والتأطير، بعدما أصبح زعماؤها سلاطينَ يتحكّمون في مؤسساتها ومفاصلها الحيوية، بحيث لا يهمهم إلّا تأمين الفوز بأكبر عدد من المقاعد في البرلمان ومجالس الجهات والأقاليم والعمالات والجماعات، بشكلٍ يمكّنهم من التحكم في نخب أحزابهم وهندسة تشكيلاتها، مع ما يعنيه ذلك من موارد سياسية ومادية واجتماعية تصبّ في مصلحتهم.