سلام يا صاحبي
"إلى روح محمد الشيخ يوسف"
لقد وقعنا في الفخ؟ الفخ الذي كان منصوبًا بعنايةٍ، كحفرة تحت الأرض، ومغطَّى بكلِّ ثقة بأوراق الشجر، حتى تنزلق قدم الضحيَّة بسهولةٍ وغفلة، عندما ترتاد الغابة؛ بحثًا عن هدوء، وهربًا من صخب الحياة، فأنت تمشي بتؤدةٍ، وتفكِّر وترتِّب المسلَّمات التي آمنتَ بها، طيلةَ حياتك، حتى تنزلق قدمك، وتقع في الفخ.
وأنت تحاول الصُّراخ، وتجاهد للخروج، ينكشف الفخ الحقيقي الذي وقعتَ فيه، طوال حياتك، حين كان الكبار، فقط، يذهبون إلى بيوت العزاء، وحين كان لون الملابس السوداء عنوان الحداد، وإغلاق التلفاز، وسحب الأسلاك المتصلة به، ونقله إلى مكان بعيد عن غرفة المعيشة، هو التعبير الأمثل عن الحزن، فهناك عجوزٌ طاعنٌ في السنّ قد رحل، فأطلقت امرأة خرقاء زغرودة، بناءً على أمر رجال العائلة، متوسِّطي العمر، وهذه الزغرودة بمعنى أنه قد عاش عُمرًا مديدًا في حياة أولاده وأحفاده، قضاه معزَّزًا مكرَّمًا، ولم ينل منه المرض، ولم يشتكِ منه الفراش؛ فلم تظهر على جانبيه النحيلين قروح، ولم يتسلَّخ جلده الجافّ، الفاقد حيويته.
اليوم تكتشف الفخ، عندما تسمع كلَّ يوم خبرًا عن موت أحد الشباب، وكان فخُّ حياتك الأول أن الكبار هم فقط الذين يموتون، وحين كانت الجدَّة بحكم أنها أكبر أفراد العائلة تذهب إلى بيت عزاء في الجوار، فهي لا تعود إلى البيت مباشرة؛ خوفًا على أهله، فهناك عادة متَّبعة، أن تذهب إلى زيارةٍ أخرى، ثم تعود إلى البيت؛ لكي لا يفتح بيت عزاء في بيتها، وبيتها بالطبع يزيّنه الشباب والصبايا والصِّغار، من الأبناء والأحفاد.
اليوم نكتشف الفخَّ الذي أوقعونا فيه، ورحلوا، فالشباب يموتون. هكذا تستيقظ ذات صباح حارّ، والعرق يتصبَّب من خلايا جسدك، على الرغم من ذلك الكائن الشبحيّ الذي يلفُّ في سقف الغرفة، مجاهدًا أن يلطِّف الجو، ولكنك تسحب هاتفك، وتفرك عينيك؛ بحثًا عن آخر الأخبار. تعرف أن هناك أحداثًاً طويلة قد حدثت، في وقت نومك القصير، ولكنك لا تتوقَّع أن تقرأ خبر موت شابٍّ تعرفه جيِّدًا، لا تتوقَّع، وتنهض مسرعًا؛ لتضيء الإنارة الرئيسية، في غرفة نومك، وتفرك عينيك جيِّدًا، وتتأكَّد أنك لا تحلم.
الفخ الذي وقعنا فيه، يا صغيري، حتى أنهكت قلوبنا المفاجآت، وصارت مواقع التواصل الاجتماعي تصطبغ باللون الأسود، ما بين فقْدٍ وفقد، وكلَّ يوم تقرأ خبر رحيل، وتمنع نفسك من أن تنساق خلف القطيع الذي يؤكِّد أن هذا العام عام شؤم، وتُمسك لسانك عن إطلاق مسبَّة للزمن؛ خوفًا من غضب الرب. ولكن الأسى يعتصر جوانبك، وأنت تتخيَّل ذلك الفتى الصغير، المشاكس، المحارب، المغرِّد، الكاتب، الصارخ، قد هوى إلى التراب، ناسفًا المعتقد الفولكلوري السقيم إنَّ "فلانا على حافَّة قبره"، وسوف نسمع خبر وفاته قريبًا، ولن يفاجئنا الأمر إطلاقًا، فهذا هو ناموس الحياة الذي اختلَّ، أخيرا، وصرنا نودِّع الشباب، واحدًا تلو الآخر.
الفخ الذي وقعنا فيه يا "صاحبي" أننا اعتقدنا أننا قد نجونا بتغيير المكان، ولكن الأزمة متروكة خلفنا، وتطعننا بوخزاتٍ مؤلمة، ولا نستطيع ألا نلتفت إليها. هناك في القلب المتعَب الهارب من الخذلان ذلك الحبُّ الأبدي البغيض الذي ينغِّص عليك راحتك الموهومة، لو حتى وصلت إلى أبعد وأقصى نقطة في المعمورة، وهو أنَّ وطنك ليس بخير.
الفخ، يا صاحبي، أنَّ الجميع قد بكاك بقوَّة، ولكن أحدًا لن يشعر بوجع أمِّك، ولا أحد يعرف وجع الفقد، إلا الجالس جنب الموقد، بمحاذاة النار، وهو يعتقد أنه يستمدُّ الدفء، ولا يعلم أن أطرافه تحترق، وجلده يتجعَّد، وعينيه تدمعان، وتحمرَّان؛ فيفقد الرؤية؛ بفعل الدُّخان، ويقترب من أن يفقد الوعي؛ بسبب الغازات السامَّة المنبعثة من اللهب، ويسمع من بعيد من يقول: كفانا حزنًا، فالموت يحدث كلَّ يوم، وقد أصبح انتقائيًّا، فلا يختار إلا الصغار، وعلينا أن نستعدَّ لخبر موتٍ يشبه موت محمد الشيخ يوسف.