سورية... المستحيل على بعد جيل

03 يناير 2025
+ الخط -

استمع إلى المقال:

"وقال: إذا متّ قبلك/ أوصيك بالمستحيل!/ سألت: هل المستحيل بعيد؟/ فقال: على بعد جيل" (من قصيدة "طباق" إلى إدوارد سعيد لمحمود درويش)...
بعد حوالي جيلين، أو حوالي مستحيلين، تداعى حكم "الأسد إلى الأبد" كما يتداعى بيت العنكبوت، وفرّ الأسد (الابن) فجر 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، هارباً إلى موسكو بما ملكت يداه. وفي اليوم نفسه تهاوت تماثيل الأسد (الأب) من الميادين العامّة في مدينة دمشق، وغيرها من المدن السورية... في 8 ديسمبر، توارى "الأبد" وعاد "الزمن"، فتنفّس السوريون نسائم الحرّية الرطبة، وقد حُرِموا منها ستّة عقود ونيّف، وتحديداً، منذ استولى حزب البعث على السلطة في انقلاب 8 مارس/ آذار عام 1963، علماً أن بداية "الأبد" السوري كانت في شهر نوفمبر/ تشرين الثاني عام 1971.
في الثامن من ديسمبر (2024)، توارى شبح البطريرك، وتنفّس السوريون حرّيةً. رحل البطريرك بما نهب، رحل الجمل بما حمل (كما يقال)، من دون كلمة وداع أو اعتذار أو أسف واحدة، وربّما من دون دمعة فراق واحدة. رحل بعد أن عرف أن الحلفاء تخلّوا عنه لخيبة أملهم فيه، وتخلّي حُماته من الضبّاط والجنود عنه بسب الفقر والقتال حتى التعب. أتخيّله مذعوراً يلملم أشياءه ويحزم حقائبه ويفرّ هارباً قبل أن يصل الزاحفون إلى قصره. بعد حوالي ربع قرن من الحكم، يفرّ البطريرك في خريفه هارباً، لأنه يدرك جيّداً أن الزاحفين نحو قصره لا يقبلون بشيء أقلّ من رأسه.

تغيرت محاور النفوذ والتحالف منذ "الثامن من ديسمبر"، فتصاعد نفوذ المحور التركي الإخواني، وتراجع نفوذ المحور الإيراني الشيعي

مذعوراً فرّ البطريرك هارباً، فهو يعرف كم من الناس كان مسؤولاً عن قتلهم، أو سجنهم وتعذيبهم، أو إذلالهم، أو إخفائهم قسرياً، وكم من الناس يتحمّل المسؤولية عن نزوحه داخل البلاد أو رحيله خارجها! ونزح داخل البلاد ورحل عنها خلال فترة حكمه ما يقارب نصف عدد السكّان، والظن أنه لا يعاني الآن من وخزات ضمير نتيجة لذلك، فضمير "أسد الأبد" لم يوجد. ربّما يعاني الآن من أوجاع أسنان، كالتي كان يعاني منها بطل رواية "ظلام وسط الظهيرة" (لآرثر كسلر)، بعد كلّ عملية اغتيال كان ينفّذها ببراعته الفائقة.
وبعد نهاية "الأبد" عاد الزمن، فهرع السوريون إلى الميادين التي صارت ملكاً لهم (وكانت حِكراً على أمن الحكام البائدين ومروّجيهم)، فحطّموا تماثيل البطريرك ومزّقوا صوره، وعبّروا عن أفراحهم وأحزانهم، كما عن أحلامهم ومخاوفهم. فمنهم من ذهب ليتفقّد ما تبقّى من بيت كان له، ومنهم من ذهب إلى السجون يسأل عن مصير قريب أو حبيب اختفت آثاره من زمن، ومنهم من أخذ يسأل عن هُويَّة هؤلاء الذين أزاحوا الصخرة الثقيلة عن صدور الناس، ومنهم من أدهشهم خلو ميدان الأمويين في دمشق من عناصر "أمن النظام"، ومنهم من أخذ يسأل عن اليوم التالي واليوم الذي يليه... وهكذا، فرحين برحيل البطريرك، مدركين في الوقت ذاته كثرة وهول التحدّيات للمستقبل القريب والأبعد.
هذه التحدّيات الكثيرة والمهولة غير خافية على العارفين، وهي من نوعَين مترابطَين، واحد داخلي والآخر خارجي. وتنضوي تحت التحدّيات الداخلية أمور وقضايا: بناء النظام السياسي الجديد، الذي يحترم الحرّيات العامّة، ويحتضن التعدّدية الفكرية والسياسية والإثنية، وإعادة بناء الجيش الوطني والاقتصاد الوطني، وإعادة بناء القوى الأمنية الوطنية، وتأهيل المرافق العامّة وتطويرها، كالمطارات والموانئ وشبكات المواصلات والاتصالات والكهرباء والطرق، وإعادة النازحين إلى بلداتهم وبيوتهم بعد إعادة إعمارها. يضاف إلى ذلك كلّه، مواجهة تحدّي أنصار النظام الراحل، وإن كان قليلاً بأسهم وعديدهم. أمّا التحدّيات الخارجية فذات شقَّين، يُعنى الأول منهما بتيسير العودة المنظّمة لمن يريد من اللاجئين السوريين في الدول المجاورة وغيرها. أمّا الشقّ الثاني (والأصعب) فيُعنى بإعادة تحديد طبيعة علاقة سورية الجديدة، من حيث النفوذ والسيطرة والتحالف، مع كلّ من دول الجوار الخمس أولاً، والدول العربية غير المجاورة ثانياً، وبقيّة الدول الوازنة والمؤثّرة في الإقليم ثالثاً.
وفي هذا الصدد، لم يعد خافياً أن محاور النفوذ والتحالف قد تحرّكت وتغيّرت كثيراً منذ "الثامن من ديسمبر"، فتصاعد نفوذ المحور التركي - الإخواني وسطع نجمه، بينما تراجع نفوذ المحور الإيراني - الشيعي وخبت أنوار هلاله. ولهذا الصعود والتراجع تأثير مباشر (وإن كان متفاوتاً) في دول الجوار العربية: لبنان والعراق والأردن. أمّا المحور المصري – السعودي – الإماراتي فما زال مرتبكاً ومختلط المشاعر والفِكَر بسبب الهُويَّة الأيديولوجية الطافية في السطح لحكّام سورية الجُدد. وسرّ هذا الارتباك واختلاط المشاعر والفِكَر يكمن في فرحٍ وارتياحٍ من أفول عهد "أسد الأبد"، يوازيه توجّس وتخوّف من غلبة حركة الإخوان المسلمين. وباختصار، الخاسر الأكبر من التغيير في سورية إيران، ومن يدور في فلكها، بينما الرابح الأكبر هي تركيا وحلفاؤها في الإقليم. أمّا العداء المتبادل بين سورية الجديدة وإسرائيل الصهيونية، فيظلّ الثابت الأكيد، رغم التحوّلات المذكورة.

لا تحرموا السوريين من فرح الخلاص من الجلّاد بذريعة أن الغد غامض أو مقلق، وقد لا يكون مشرقاً

وإذا كانت تركيا هي الرابح الأكبر من الوضع الجديد في سورية، يثور السؤال التالي مباشرة: ما الذي تريده تركيا حقّاً من هذا الاحتضان للحكّام الجدد، الذي تجاوز حدّ التحالف؟... لعلّ الجواب بسيط ومباشر: تريد تركيا لسورية ومن سورية أشياء كثيرة ومهمّة، في مقدّمها: أولاً، على المستوى الأمني تريد تركيا من جارتها الجنوبية التحرّر من النفوذ الأجنبي، سواء الدولي أو الإقليمي، والتعاون الجدّي معها في مجالَي محاربة الإرهاب وحلّ مشكلة أكراد سورية، في إطار السيادة السورية (وهي مشكلة تزعج الأمن القومي التركي منذ زمن طويل).
ثانياً، على المستوى السكّاني ما تريده تركيا من جارتها الجنوبية هو تهيئة الظروف الملائمة لعودة ملايين السوريين الذين لجأوا إلى تركيا أو نزحوا إلى الحدود السورية التركية.
ثالثاً، على المستوى الاقتصادي تطمح تركيا إلى تحويل سورية سوقاً للبضائع التركية، وجسراً للصادرات والواردات من دول الخليج العربي. كما وتطمح إلى لعب دور رئيس في إعادة إعمار ما دمّرته الحرب الدامية.
رابعاً، على مستوى نظام الحكم، بعد المرحلة الانتقالية، تريد تركيا تبنّي نظام حكم في سورية قريب الشبه من نظام الحكم القائم في تركيا على الدمج بين التزامات كلٍّ من الديمقراطية والعلمانية الرخوة والتوجه الإسلامي الإخواني، بما قد يتطلّبه ذلك من التخفيف من سمك المركّب القومي العربي في هُويَّة سورية الجديدة. وهناك من الأسباب والاعتبارات ما يعزّز الاعتقاد أن القيادة السورية الجديدة منجذبة إلى ذلك كلّه.
يحقّ للشعب السوري أن يفرح بخلاصه من حاكم مستبدّ، ورث الحكم عن حاكم مستبدّ كان أباه. يحقّ للشعب السوري بأطيافه كلّها أن يفرح بالخلاص من حكم استبداد دام نصف قرن وأكثر، حكم استبداد كبت أنفاس السوريين، أذلّهم وأفقرهم وفرّق بينهم، وكان مسؤولاً عن تنزيح وتهجير الملايين الكثيرة منهم. فلا تحرموهم من فرح الخلاص من الجلّاد بذريعة أن الغد غامض أو مقلق، وقد لا يكون مشرقاً. أخيراً، يعرف العارفون، القاصي منهم قبل الداني، هول التحدّيات وجسامة المخاطر للمستقبل القريب والأبعد. ولكن شعباً عرف كيف يقتلع الطاغية من الجذور سوف يعرف يوماً كيف يردّ على هذه التحدّيات، وكيف يحرص على عدم استبدال حكم استبداد بآخر، وكيف يصل في نهاية المطاف إلى ضالّته، دولة المواطنين الأحرار والمتساوين في الحقوق، غير المذيّلة لأيّ محور نفوذ إقليمي، وذلك رغم المطبّات والمنزلقات في الطريق.

560FC10B-CDDA-4D79-8111-45AEBE6BD3AB
560FC10B-CDDA-4D79-8111-45AEBE6BD3AB
سعيد زيداني

كاتب وباحث فلسطيني. أستاذ للفلسفة في جامعة القدس المحتلة، نال الدكتوراة من جامعة ويسكونسين في الولايات المتحدة، عام 1982، عمل سنوات أستاذا في جامعة بير زيت، له دراسات ومقالات عديدة عن الخيار الديمقراطي وحقوق الإنسان.

سعيد زيداني