سيد القمني وباسم سمرة: المفكّر والمشخصاتي
يتنازعك شعوران متناقضان، وأنت تتفرّج على انحناء الممثل المصري، باسم سمرة، أمام جبروت الترفيه السعودي، المتحالف مع طغيان النظام السياسي المصري، هل تلومه وتعنّفه وتسخر منه على هذا التراجع السريع والاعتذار المهين، الأقرب إلى الاسترحام والاستجداء من ملوك الترفيه؟ أم تتعاطف معه وتلعن اللحظة التي وضعت مصر بين فكّي إدارة سياسية بليدة سخّرت كل شيء، بما في ذلك ما تسمّى قوة مصر الناعمة، للخدمة في بلاط أصحاب المنح والعطايا والمساعدات والهدايا، ووظفت كل طاقاتها لإرضائهم؟.
الشاهد أنه ليس بعد التنازل عن جزيرتي تيران وصنافير، بالبيع أو الإهداء للسعودية سقف أو قاع للانبطاح والانكسار. وفي هذه الحالة التي صارت معها قوى مصر الناعمة أداةً سياسيةً طيعة بين يدي النظام السياسي، مثلها مثل الهراوة والعصي المكهربة في أيدي المنظومة الأمنية، من العبث تصوّر أن ممثلًا، أو"مشخّصاتيًا" بحسب التعبير المعتمد من شيخ الترفيه، يمكن أن يرفع رأسه بكلمة نقد أو موقف محترم من دون أن تطير رأسه، إن لم يعتذر ويتراجع على ذلك النحو المخجل الذي طار معه نقيب الموسيقيين المصريين إلى الرياض، ليغنّي في المكان ذاته الذي غنى فيه مطربو المهرجانات الذين أحالهم النقيب إلى التحقيق بعد التعديل في كلمات أغنياتهم لتكون مناسبةً لأراضي الترفيه الطاهرة.
في هذه الوضعية، يصبح اتخاذ موقف يتمتع بالحد الأدنى من الاحترام تهورًا وحماقًة ما يعرض الأمن القومي للخطر، كما فعل باسم سمرة حين دافع عن الفنان محمد صبحي، متوهمًا أنه سوف ينجو من الانتقام الذي لم يتأخر، وجاء سريعًا جدًا، حيث تم اقتياد "المشخصاتي المجرم"إلى أحد ستوديوهات التلفزة لكي يعتذر ويطلب الصفح من أصحاب الجبروت، وتقيّد الجريمة ضد ابن أخته الذي يدير له حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي.
الأمر ليس مستغربًا في ظل هذه الحالة من الهوان الحضاري والثقافي والفني، إلى الحد الذي لن أندهش معه لو خرج الفنان محمد صبحي، شخصيًا، باعتذار إلى ملك الترفيه، حرصًا على الأمن القومي والمصالح العليا للبلاد .. تلك البلاد التي تعيش حالة من السيولة والانهيارات السريعة لما تسمّى قواها الناعمة أمام طوفان هادر لا يترك شيئًا إلا زبدًا ورغاوى تفاهة وانحطاط، فيما يهان كل حقيقي وأصيل وجاد، هبوطًا إلى مستوياتٍ يصبح معها مطلوبًا منك أن تعتبر فيه شخصًا مثل سيد القمني مفكرًا وعالمًا تنويريًا، بينما الدكتور أحمد الطيب، الإمام الأكبر، مجرّد واحد من المشايخ، يستطيع أي بلطجي أن يظهر في برنامج تلفزيوني، ويعلمه كيف يكون الفقه والفكر.
ولمناسبة رحيل سيد القمني، الذي يُراد اعتماده مفكرًا إسلاميًا، رغم أنف الجميع، أذكر أن الروائية البحرينية فوزية رشيد، التي أظنها تعرفه تمام المعرفة، كما يعرف أصدقاؤه الذين يدافعون عنه أنها تعرفه جيدًا، أشارت، في مقال لها، إلى أن القمني قال، بوضوح في إحدى ندواته المسجلة، "الإسلام أكبر خطر على البشرية".. فلماذا يحاول هؤلاء المهرّجون إقناعنا بأنه كان مفكرًا ومجددًا في الفكر الإسلامي؟ ولماذا يغضبون من منتقدي تهافته العلمي، الذي يهبط بالفكر إلى ما هو أدنى من اسكتشات وإفيهات وأغاني مهرجانات؟.
مبدأيًا، لست من الذين يصادرون الدعوات بالرحمة على الموتى، غير أن ذلك لا يعني الصمت أمام استثمار موقف الموت في إسباغ جدارة على منتجاتٍ هابطةٍ ورديئة، إذا ما أخضعت للنقد والتحليل، واعتبار كل مهرّج مفكرًا، ما جعل وصف"المفكر" مستهلكًا ومبتذلًا حتى صارت قيمته أرخص من رباط فردة حذاء. وهذا ما سجلته غير مرة وسيد القمني حي يرزق، في العام 2009 حين منحوه جائزة الدولة التقديرية، ومرة أخرى في العام 2016، حين أعلن بكل فخر أنه يخوض نضالًا عالميًا من أجل تصنيف الأزهر الشريف ضمن المنظمات الإرهابية.
ومما قلته، في ذلك الوقت، أنه في زمن الانحطاط الثقافي والانهيار الحضاري الكامل، من الطبيعي أن يوضع مدّعون، من نوعية سيد القمني وإسلام بحيري والشيخ ميزو، في فاترينات الكلام عن حرية الفكر والتعبير، وتجديد الخطاب الديني.
قل ما شئت عن مواقف مائعة للأزهر الشريف، حيال قضايا مهمة، ينبغي أن يكون واضحاً وقاطعاً فيها، وقل ما شئت عن سقوط شيخ الأزهر في حفرة الحكم العسكري، غير أنك، بميزان الفكر الإسلامي، لا يمكن، أبداً، أن تضع أسماء "الموديلز" الثلاثة المذكورين أعلاه في كفة، وفي الأخرى الأزهر بعلمائه.
في العام 2009، استيقظت مصر على نكتة تقول إن المجلس الأعلى للثقافة منح سيد القمني جائزة الدولة التقديرية في العلوم الاجتماعية، وشبّت نار غضب لدى الأوساط الثقافية ضد هذه الإهانة للفكر وللعلم، فأن تخطئ الجائزة الطريق إلى علماء أفذاذ راسخين، وتذهب إلى شخص يختبئ خلف شهادة دكتوراه مزوّرة، ولم يقدم فكراً يعتدّ به، فهذا ما عدّه كثيرون مهزلة، وطالبوا بسحب الجائزة من صاحبها.
في ذلك الوقت، كتبت تحت عنوان "سيد القمني بلبوصا" عن تهديده بخلع ملابسه والوقوف "بلبوص" عارياً لو سحبوها منه واستقر به المقام خارج مصر مكرهاً، كما قال لمجلة نيوزويك الأميركية (النسخة العربية). وعلقت يومها إنه بصرف النظر عن أنه يمكن لأي متابع أن يقدّم قائمة بمائة شخصية مصرية على الأقل أجدر من القمني (في هذه اللحظة) بالفوز بالتقديرية في العلوم الاجتماعية، فإن هذه "البلبصة القمنية"، بحد ذاتها، تصلح سبباً وجيهاً ومقنعاً للغاية بأن منح هذا الرجل، صاحب هذا القاموس الراقي من الألفاظ، جائزة في العلوم الاجتماعية، هو جريمة كاملة الأركان في حق العلم وفي حق البلد. .. وما حدث بعدها أن هيئة مفوضي الدولة أصدرت تقريراً يوصي بسحب الجائزة من القمني، لكن التوصية لم تنفذ، والجائزة لم تسحب.