سيناريوهات سورية
"شعرتُ أنّ روحي غادرت جسدي، وأن جسدي انفصم عن فكري، كلّ بمكان". هذه الجملة لإحدى النّساء ضحايا جنود الأسد، تُعبّر عن معاناة السّوريين خلال 12 سنة منذ الثورة. ولعل جملة "ما أكثر الاحتمالات وما أقلّ الحقائق" تعبّر عن سياق "الثورة الاسترجاعية" الحالية.
واجهت الثورة السورية، منذ انطلاقتها، قمعاً من أحد أكثر مجرمي الحرب دموية في التّاريخ الحديث، ولا يتفوّق عليه إلّا نتنياهو وعصابته. وجاء سقوطه متأخراً عقداً، وفي ظروف غير واضحة. لكن، أيّاً كانت الأطراف التي حرّكت البيادق على السّاحة السورية، فإنّ الحدث يستحق الاحتفال، خاصة بعد أن أصبح نصف السّوريين خارج البلاد، واضطرّ البقية للصّمت، وبعد أن خرجت الثورة من أيدي الشعب.
قد يبدو سقوط الأسد كأنّه لعبة شطرنج تلعبها قوى خارجية. ولكن لولا ثورة 2011 لما حدث هذا السّقوط. ولولا دعم الجهات الأجنبية لما بقي الأسد في الأصل. فكما سقط معمّر القذافي، رغم تمتعه بمليارات النفط وآلاف المرتزقة، في وقت قياسي، كان من المستحيل أن يصمد الأسد أكثر منه.
بعد التغريبة السورية، جاء سقوط الطاغية برداً وسلاماً على السّوريين. لكن ما العمل مع كثيرين من العرب؟ منذ اللّحظة الأولى لاقتراب سقوط الأسد، دبّ الهلع في قلوب بعض "المتابعين"، وكأنّ الأسد كان عامل استقرار وحماية لسورية. كم هي مضحكة هذه الرّواية! ما الحل إذاً؟ بقاؤه؟ هل يعرف هؤلاء ماذا فعل الأسد في سورية؟ أم نسوا؟ لكن السّوريين لم ينسوا الإبادة الجماعية بالأسلحة الكيميائية، وتدمير مظاهر الحياة في مناطق بأكملها.
أتذكر أنني كتبتُ قبل ثماني سنوات مقالاً عن "سورية بلاد الأشياء الأخيرة"، يواكب جرائم الأسد في ذروتها، حيث دُمّرت البيوت وأُبيدت مناطق، في مشاهد أفظع مما قد يقدّم فيلم هوليوودي عن نهاية العالم. لقد صنع الأسد وعصابته من الداخل والخارج ديستوبيا رهيبة. ربما أغرى بعضهم "الاستقرار الحالي"، لكنه استقرار مبنيٌّ على أنقاض؛ هرب نصف السّوريين إلى خارج البلاد، مخاطرين بحياتهم لعبور حدود مجهولة لبلاد عديدة، فقط ليجدوا بلدا يقبلهم.
من لم يذق الموت أو يرى رائحته يمكنه التّحليل كما يشاء طالما أن حياته ليست على المحكّ. ولكن بقدر ما يحب بعضهم موت الآخرين من أجل قضاياهم، فهذا ليس منطق الوطن. كيف يُطلب من الناس أن يبقوا تحت حكم دموي "تجنّباً للأسوأ"؟ وما هو الأسوأ بالنّسبة للنساء اللواتي اغتُصبن وأُجبرن على إنجاب أبناء من تحت العبودية الجنسية؟ أو للمعتقلين الذين قضوا سنوات طويلة في ظروف لاإنسانية أدّت إلى جنون بعضهم وموت آخرين؟
عام 2016، عُرض فيلم وثائقي بعنوان "سوريا الصّرخة المكتومة"، يروي شهادات نساء شهدن قتل رجال عائلاتهن أمام أعينهن، ثم تعرّضن للاغتصاب الجماعي. كانت القصص مفزعة إلى درجة أن الجمهور خرج من قاعة السينما قبل نهاية الفيلم. مع العلم أن اللواتي تحدثن في الفيلم "ناجيات"، ومنهن صاحبة الجملة السابقة. أما من بقين تحت الأسر، فالله وحده يعلم ما عشنه.
لا توجد حلول مثالية لسيناريوهات ما بعد الأسد. ولكن يمكن تلمس الظلام من خلال العودة إلى ذاكرة الضّوء. لقد بدأت الثورة السّورية أهلية خالصة، والنظام هو الذي أدخل المرتزقة وفتح الباب للخطر الخارجي. ثم قبلت بعض فصائل الثورة السلاح، واختلطت الأمور وسُرقت الثورة. هذا كان هدف الأسد، رغم أنه، بشخصه، عديم القيمة؛ صنعته مجموعة من المنتفعين الذين استغلوا وجوده لنهب خيرات البلاد.
إذا غُفرت للأسد وعائلته جرائمهم، فلن يُغفر لهم تحويل سورية إلى ساحة حرب بالوكالة، فالدمار الذي حصل ليس ذنب الشعوب أو الثورات، بل الأنظمة الساقطة. وسقوط الأسد في سياق الترتيبات الدولية يعني أن هذه القوى ستواصل تدخّلها، بوجوده أو غيابه.
في النهاية، يمكننا الاتفاق على قياس الأمور بين السيئ والأسوأ، والأسد هو الأسوأ بلا منازع. يريد بعضهم أن يبقى من تبقى من السوريين تحت رحمة الأسد، خوفاً على "سورية". لكن ما سورية من دون السّوريين؟ في أيّ سيناريو، لا تعني وحدة الأرض شيئاً بدون أهلها.